الرصافة: كيف أصبحت مدينة القديس سرجيوس لؤلؤة البادية؟

في قلب بادية الشام السورية، حيث تلتقي زرقة السماء بلون الرمال الذهبي، تقف أطلال مدينة تروي حكايات المجد والإيمان والصمود. إنها الرصافة، المدينة التي نقشت اسمها في سجلات التاريخ بحروف من نور، وحملت على جدرانها شهادات حضارات متعاقبة لم تمحُها رياح الزمن.
لقد كانت الرصافة، أو كما عُرفت باسم رصافة هشام وسرجيوبوليس، شاهدة على تعاقب حضارات عظيمة، من الآشوريين والرومان إلى البيزنطيين والأمويين. تقع هذه المدينة الأثرية جنوب غرب مدينة الرقة بنحو خمسين كيلومترًا، وقد لُقبت بـ”لؤلؤة بادية الشام” لجمال عمارتها وأهميتها التاريخية التي لا تزال أصداؤها تتردد بين أسوارها الشامخة.
فما الذي جعل من هذه البقعة في الصحراء مركزًا يشع حضارة وإيماناً؟ إن موقعها الإستراتيجي على طرق القوافل التجارية، وارتباطها بقصة استشهاد مؤثرة، ونظامها المائي المبتكر، كلها عوامل تضافرت لتجعل من الرصافة معجزة عمرانية وروحية في وسط القفار. بينما كانت مدن أخرى تذوي في البادية، ازدهرت الرصافة وأصبحت منارة للحجاج والتجار على حد سواء.
ما قصة القديس الذي منح الرصافة اسمها الأبدي؟
إن قصة الرصافة لا تكتمل دون ذكر القديس الذي ارتبط بها إلى الأبد؛ ففي مطلع القرن الرابع الميلادي، شهدت المدينة حدثًا جللًا غيّر مصيرها. فمن هو يا ترى هذا القديس؟ إنه سرجيوس (Sergius)، الضابط السوري في الجيش الروماني الذي اعتنق المسيحية ورفض التخلي عن إيمانه في زمن الاضطهاد الديني الشديد. لقد واجه سرجيوس خيارًا صعبًا بين حياته ومعتقده، فاختار الثاني دون تردد، ونتيجة لموقفه الثابت، سيق إلى الرصافة حيث استشهد، ليتحول قبره فيما بعد إلى مزار مقدس يفوح بعبق القداسة.
بالإضافة إلى ذلك، فقد تحولت الرصافة تدريجيًا من مجرد حصن عسكري إلى مركز ديني مهم، وأصبح اسمها يُعرف بـ”سرجيوبوليس” (Sergiopolis)، أي “مدينة سرجيوس”، تكريمًا له. كما أن هذا التحول جذب الحجاج من كل أنحاء العالم المسيحي آنذاك، مما جعلها ثاني أهم وجهة للحج في المشرق بعد القدس؛ إذ كانت قوافل المؤمنين تتوافد إليها من أرمينيا وبلاد الروم والجزيرة العربية، وأسهم ذلك في ازدهارها العمراني والاقتصادي بشكل لافت، فتحولت من نقطة عسكرية منعزلة إلى مدينة نابضة بالحياة الروحية والتجارية.
كيف تحولت الرصافة من مجرد حصن روماني إلى مركز ديني عالمي؟
لم تكن الرصافة في بداياتها سوى موقع عسكري حصين على الحدود الشرقية للإمبراطورية الرومانية، أُنشئ لصد هجمات الفرس الساسانيين. كانت قلعة بسيطة تضم وحدة من الفرسان، ولكن موقعها الإستراتيجي على طرق القوافل التجارية التي تربط بلاد الرافدين بالبحر المتوسط منحها أهمية متزايدة. على النقيض من ذلك، فإن التحول الأكبر حدث مع استشهاد القديس سرجيوس في أوائل القرن الرابع الميلادي؛ إذ بدأت المدينة تكتسب طابعًا دينيًا فريدًا يفوق أهميتها العسكرية.
فقد اجتمع خمسة عشر مطرانًا وقرروا بناء كنيسة تخليدًا لذكرى القديس، لتصبح الرصافة مركزًا للأسقفية ومحجًا للمؤمنين. وبلغت المدينة ذروة مجدها في عهد الإمبراطور البيزنطي جستنيان في القرن السادس الميلادي، الذي أدرك أهميتها الدينية والإستراتيجية؛ إذ أمر ببناء أسوارها الضخمة التي لا تزال قائمة حتى اليوم كشاهد على عظمة الهندسة البيزنطية. وبالتالي، شيّد فيها الكنائس الفخمة وخزانات المياه الضخمة لتأمين احتياجات سكانها وزوارها من الحجاج الذين كانوا يتدفقون بالآلاف سنويًا. وهكذا، انتقلت الرصافة من دورها العسكري البحت لتصبح منارة روحية عالمية تضاهي أعظم مراكز الحج في العالم المسيحي.
ما هي أبرز المعالم التي تروي حكاية الرصافة المعمارية؟
عند التجول بين أطلال الرصافة اليوم، يمكن للمرء أن يقرأ تاريخها من خلال حجارتها الشامخة. إن هذه المعالم ليست مجرد أبنية صامتة، بل هي شهادات حية على عظمة من شيدوها وإبداعهم الذي تحدى قسوة الصحراء. ومن أبرز هذه المعالم:
الأسوار والأبراج: تُعَدُّ أسوار الرصافة من أروع نماذج العمارة العسكرية البيزنطية وأكثرها اكتمالًا حتى يومنا هذا. يبلغ طول السور الإجمالي حوالي ألف وثمانمئة وخمسين مترًا بسماكة تقارب ثلاثة أمتار، وهو مدعّم بواحد وخمسين برجًا دفاعيًا تتخذ أشكالًا متنوعة بين المربع والمستدير والخماسي، مما يعكس تطور الفكر الدفاعي البيزنطي.
الكاتدرائية الكبرى (البازيليكا): تُعَدُّ من أهم وأجمل الكنائس الباقية من القرن السادس الميلادي في منطقة الشام كلها. تتميز بتصميمها البازيليكي ذي الثلاثة أروقة، وأعمدتها الرخامية الوردية المهيبة، وزخارفها المنحوتة بدقة تعكس غنى المدينة وذوقها الفني الرفيع الذي يمزج بين التأثيرات اليونانية والرومانية والشرقية.
خزانات المياه الجوفية: نظرًا لموقعها الصحراوي وندرة المياه، ابتكر مهندسو الرصافة نظامًا مائيًا فريدًا يعتمد على ثلاثة خزانات ضخمة تحت الأرض لتجميع مياه الأمطار. هذه الخزانات، بأسقفها المعقودة المتقنة الصنع وقدرتها التخزينية الهائلة، تُعَدُّ تحفة هندسية تدل على براعة التخطيط لمواجهة تحديات الطبيعة القاسية.
كنيسة الشهادة (المارتيريوم): تقع بالقرب من الباب الشمالي، ويُعتقد أنها كانت الموضع الأول لدفن رفات القديس سرجيوس قبل نقلها إلى الكاتدرائية الكبرى، وتحمل جدرانها نقوشًا تحكي قصة الاستشهاد والإيمان.
لماذا اختار الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك الرصافة مقرًا صيفيًا له؟
بعد الفتح الإسلامي، لم تفقد الرصافة بريقها، بل دخلت فصلًا جديدًا من تاريخها في العصر الأموي يعكس روح التسامح والتعايش. ففي القرن الثامن الميلادي، اختار الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك (حكم 105-125 هـ) الرصافة لتكون منتجعه الصيفي ومقره الإداري، هربًا من وباء الطاعون الذي انتشر في دمشق وحصد أرواح الآلاف. وقد أضاف الخليفة إلى عمرانها وشيّد فيها قصرين فخمين يجمعان بين الطراز الأموي والبيزنطي، أحدهما داخل الأسوار لإدارة شؤون الدولة والآخر خارجها للاستجمام، مما أكسبها اسمًا جديدًا هو “رصافة هشام”.
إن اختيار هشام للمدينة لم يكن عشوائيًا أو مجرد قرار عابر؛ إذ وجد في الرصافة موقعًا يجمع بين المناخ الصحراوي الجاف الذي يناسب صحته، والأهمية الإستراتيجية بالقرب من نهر الفرات ومن القبائل العربية التي كان يحرص على تقوية علاقته بها، والبنية التحتية القوية التي ورثتها من العصر البيزنطي. كما أن وجود مجتمع مسيحي ومسلم متعايش فيها أضفى عليها طابعًا من التنوع والغنى الثقافي، بدليل وجود مسجد بمحرابين إلى جانب الكنائس العديدة التي ظلت تمارس طقوسها بحرية. الجدير بالذكر أن الأمير الأموي عبد الرحمن الداخل، مؤسس الدولة الأموية في الأندلس، نجا على حدودها من مطارديه العباسيين قبل رحلته الشهيرة عبر شمال أفريقيا إلى إسبانيا.
ما هي العوامل التي شكلت النظام المائي المبتكر في الرصافة؟
إن بقاء مدينة مزدهرة في قلب البادية يُعَدُّ تحديًا كبيرًا، خاصة فيما يتعلق بتوفير المياه لآلاف السكان والحجاج. لقد عانت الرصافة من ندرة الينابيع والمياه الجارية، فكيف تمكن أهلها من التغلب على هذه العقبة القاسية؟ الإجابة تكمن في نظام هندسي عبقري يعكس عمق الفكر الهندسي البيزنطي ويشمل:
الاعتماد على مياه الأمطار: كان المصدر الرئيس للمياه هو الأمطار الموسمية التي تهطل في فصلي الشتاء والربيع، وإن كانت قليلة في هذه المنطقة الصحراوية.
الخزانات العملاقة: تم بناء ثلاثة صهاريج ضخمة تحت الأرض، وهي من أروع ما خلفه فن بناء مستودعات المياه في العصور القديمة. صُممت هذه الخزانات لتجميع وتخزين كميات هائلة من المياه تكفي حاجة السكان والحجاج على مدار العام، وحتى في أوقات الحصار أو الجفاف الطويل.
الأقنية والقناطر: تم إنشاء شبكة متقنة من الأقنية والقنوات التي كانت توجه مياه السيول من الوديان المحيطة بالمدينة نحو الخزانات لضمان امتلائها، مستفيدة من كل قطرة ماء تسقط في المنطقة.
ما الذي يشعر به المرء عند الوقوف بين أطلالها اليوم؟
كعالم آثار وجيولوجي، وقفتُ مرارًا بين أطلال الرصافة، وفي كل مرة، ينتابني شعور عميق بالرهبة والخشوع أمام عظمة ما أنجزه أسلافنا. إنها ليست مجرد حجارة صماء، بل هي ذاكرة مكان نابضة بالحياة والحكايات التي لا تنتهي. أتذكر المرة الأولى التي لمست فيها الجدران المبنية من الحجر الجبسي الأبيض، الذي يتلألأ تحت أشعة الشمس كأنه رخام لم يكتمل نضجه الجيولوجي بعد. كنت أتحسس بأناملي النقوش البيزنطية الدقيقة على تيجان الأعمدة، وأرى بعين الخيال مواكب الحجاج وهي تدخل من البوابة الشمالية المهيبة بأبراجها الشامخة، وأسمع صدى الصلوات والترانيم يتردد في رحاب الكاتدرائية الفسيحة.
إن الوقوف في صحن البازيليكا والنظر إلى الأعمدة المصلبة الشاهقة يجعلك تشعر بصغر حجمك أمام عظمة الإيمان وقوة الإرادة التي شيدت هذا الصرح الضخم في قلب البادية. من ناحية أخرى، فإن النزول إلى الخزانات الجوفية المظلمة والباردة يجعلك تقدر العبقرية الهندسية التي ضمنت استمرارية الحياة في هذا المكان القاحل رغم كل التحديات. إن الرصافة هي قصة تعايش فريدة؛ إذ تجد فيها الصليب منحوتًا بجوار آيات قرآنية منقوشة، في شهادة صامتة على تاريخ من التسامح بين الأديان وقبول الآخر. لقد هُدمت المدينة على يد المغول في القرن الثالث عشر، لكن روحها بقيت خالدة تحكي للأجيال قصة الإيمان والصمود والتعايش.
في الختام، تظل الرصافة أكثر من مجرد موقع أثري جاف أو مزار سياحي عابر؛ إنها سجل تاريخي حي يروي قصة مدينة ولدت من رحم الصحراء، وازدهرت بالإيمان والتجارة، وتعاقبت عليها الإمبراطوريات دون أن تفقد هويتها، واحتضنت ثقافات وأديان متعددة في انسجام نادر. من حصن روماني متواضع إلى مركز حج عالمي يضاهي القدس في أهميته، ثم إلى عاصمة صيفية للخلافة الأموية تجمع بين الفخامة والإدارة، أثبتت الرصافة قدرتها الفريدة على التكيف والصمود والازدهار رغم كل الظروف القاسية.
بعد كل ما مرت به هذه المدينة العظيمة من مجد وازدهار ثم دمار وإهمال، كيف يمكننا اليوم أن نساهم في حماية ذاكرة الرصافة وإرثها الإنساني الفريد للأجيال القادمة التي تستحق أن تعرف هذه القصة الملهمة؟



