سورية القديمة

مدن سوريا في العصور الكلاسيكية

تعد سوريا أقدم المناطق المأهولة بالسكان في العالم، ويزخر تاريخها بالفترات الزمنية الغنية بالأحداث والتحولات الحضارية. من بين هذه الفترات، تبرز العصور الكلاسيكية بوضوح كواحدة من أهم الفترات التي شهدت خلالها سوريا تطوراً كبيراً على مختلف الأصعدة السياسية والاجتماعية والثقافية. بدأت الحقبة الهلنستية في سوريا بدخول الإسكندر المقدوني إلى المنطقة، مروراً بالصراعات بين خلفائه السلوقيين والبطالمة، وصولاً إلى السيطرة الرومانية التي جلبت معها فترة من الازدهار والاستقرار. هذه المقالة تسلط الضوء على مدن سوريا خلال هذه العصور الكلاسيكية، مستعرضةً كيف تأثرت بالتغيرات السياسية والتطورات الحضارية، وكيف ساهمت في تشكيل هوية المنطقة الثقافية والجغرافية. سنستعرض بالتفصيل دور المدن الرئيسية مثل أنطاكيا، وحلب، ودمشق، وكيف تحولت هذه المدن إلى مراكز حضارية مزدهرة تحت تأثير الإمبراطوريات المتعاقبة التي حكمت المنطقة. انضم إلينا في هذه الرحلة التاريخية لاستكشاف الماضي العريق لسوريا والكنوز الأثرية التي لا تزال تروى لنا قصصها حتى اليوم.

بداية العصر الهلنستي

بدأ العصر الهلنستي في المشرق العربي بدخول الإسكندر المقدوني إلى المنطقة واحتلاله بلاد الشام (سورية، ولبنان، والأردن، وفلسطين)، بدءاً من سنة 333 ق.م بعد انتصاره على الملك الفارسي (الأخميني) داريوس الثالث في معركة إيسوس في منطقة الإسكندرون في شمال غربي سورية، محققاً بذلك امبراطورية مترامية الأطراف امتدت من مقدونيا غرباً حتى الهند شرقاً ومصر جنوباً. ولم يلقَ الاسكندر مقاومة من المدن التي احتلها خاصة في آسيا الصغرى والمشرق العربي، فيما عدا بعض منها مثل مدينتي صور وغزة اللتين قاومتا الإسكندر بشدة ولكنهما سقطتا في النهاية. وتابع زحفه نحو الشرق ليصل إلى نهر السند في الهند، لكنه وفي طريقه إلى بابل أصيب بالحمى فوافته المنية سنة 323 ق. م.

انقسام الإمبراطورية بعد وفاة الإسكندر

بعد وفاة الإسكندر بقيت الإمبراطورية بعد وفاة الإسكندر موحدة في البداية ولعدة سنوات، وتم تنصيب أخ الإسكندر غير الشقيق فيليب الثالث المعتوه (Philip III Arrhidaeus) وابنه إسكندر الرابع من زوجته روكسانا وتوليهما إدارة الإمبراطورية بمساعدة قادة جيوش الإسكندر، ما لبثت هذه الإمبراطورية أن قُسِّمَتْ بعد نزاع طويل بين هؤلاء القادة، بدأ في سنة 316 ق.م، وكان أهمهم: برديكاس (Perdiccas)، أنتيباتروس (Antipatrus)، أنتيغونوس الأعور (Antigonus Monophtalmus)، بطليموس (Ptolemy)، يومينيس الكاردي (Eunebes of Cardia)، سلوقس (Seleucus).

حروب القادة وتقسيم الأراضي

جرت بين هؤلاء القادة عدة حروب وانقسموا في تحالفات مختلفة بهدف تصفية بعضهم بعضاً والسيطرة على ممتلكات إمبراطورية الإسكندر. وبعد سلسلة من المعارك انتهت بقتل كل من برديكاس وأنتيغونوس، كان التقسيم النهائي أن خضعت المناطق الممتدة من شرق البحر المتوسط وحتى الهند لسلوقس نيكاتور، الذي وبعد معركة إبسوس في الأناضول في سنة 301 ق.م أسس دولة مترامية الأطراف عاصمتها أنطاكيا، بينما خضعت مصر والجزء الجنوبي من بلاد الشام لبطليموس.

تأسيس المدن السلوقية

اختار السلوقيون مواقع ذات ميزات دفاعية وتجارية وزراعية، لتأسيس مدنهم وقد حملت هذه المدن أسماء الملوك السلوقيين، أو أسماء مدن وقرى واقعة في مقدونيا تم تنظيمها وفق مخططات هندسية شبيهة بالمدن اليونانية المقدونية، فبنيت أنطاكية على نهر العاصي وأصبحت عاصمة الدولة، كما بنيت أفاميا في موقع دفاعي مهم يطل على سهل الغاب الغني بالزراعة، واللاذقية وسلوقيا على البحر، ودوار أوروبوس على نهر الفرات في موقع إستراتيجي مهم، وكذلك مدينة سيروس في وادي عفرين في المنطقة الشمالية…إلخ.

أما بالنسبة إلى المدن القديمة كدمشق وحلب وحماة وغيرها فقد تمت إعادة تخطيطها من جديد من خلال إضافة حارات جديدة ومنظمة منحت لها أسماء مقدونية، إذ سميت حلب (بيروية) وحماه (أبيفانيا)، ودمشق (ديميترياس)، حيث أحيطت بأسوار مهمة واستوطنها المستعمرون القادمون من اليونان ومقدونيا. وزودتنا كتابات المؤرخين القدماء والرحالة أمثال بلين القديم، سترابون وديودور الصقلي….إلخ بمعلومات مهمة حول طبيعة هذه المدن وجغرافيتها خلال العصرين الهلنستي والروماني.

اقرأ أيضاً:  التطور العمراني في سوريا: من العصر الهلنستي إلى العصر الروماني

الصراعات بين السلوقيين والبطالمة

بقيت قضية الاستيلاء على المناطق الجنوبية من بلاد الشام معلقة بين سلوقس وبطليموس حيث حاولت كل دولة التوسع على حساب الأخرى، مما أدى إلى نشوب حروب متعددة بين الدولتين السلوقية والبطلمية كان مسرحها الرئيسي بلاد الشام، سميت بالحروب السورية خاصة بعد أن توفي كل من بطليموس الأول وسلوقس نيكاتور. نشبت هذه الحروب، وعددها ست حروب، طيلة القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد، جرت خمسة منها خلال القرن الثالث قبل الميلاد، أما السادسة فقد جرت خلال القرن الثاني قبل الميلاد. وكان من أهمها الحرب السورية الخامسة إذ استطاع الملك السلوقي أنطيوخوس الثالث (223 – 187 ق.م) استعادة كافة المناطق من سورية المجوفة في جنوب سورية خلال 200و 198 ق.م. إلا أن السلوقيين خسروا كافة أراضيهم في آسيا الصغرى وبحر إيجة من الرومان إثر معركة مغنزيا سنة 189 ق.م بموجب اتفاقية أفاميا سنة 188 ق.م.

انهيار الدولة السلوقية وصعود روما

بدأت الدولة السلوقية تعاني من أزمات مرتبطة بالتنافس بين أفراد الأسرة السلوقية للسيطرة على عرش المملكة بدءاً من منتصف القرن الثاني قبل الميلاد زيادة على الأخطار الخارجية المتمثلة بهجمات الدولة البطلمية في الجنوب، والبارثية في الشرق، وتدخل الرومان في الشؤون الداخلية للدولة السلوقية، كل هذه الأزمات سرعت من سقوطها.

وبدءاً من مطلع القرن الأول قبل الميلاد، أصاب الضعف الدولة السلوقية، كما انشغل الملك البطلمي بطليموس سوتر الثاني منذ 89ـ 88 ق.م بترتيب شؤون مملكته الداخلية، لذا لم يشكل البطالمة خطراً على المناطق الجنوبية من سورية. كما عانت الإمبراطورية البارثية من المشاكل الكثيرة خلال هذا القرن، وخاصة غزوات شعوب يوتشي التي كانت تهدد حدودها الشرقية.

هذا الضعف المتزامن للدولة السلوقية وللإمبراطورية البارثية أعطى الملك تيكران الأرمني دفعاً للسيطرة على المنطقة، لكن هذا النفوذ المتزايد كان يشكل تهديداً لمصالح روما التي ظهرت في هذه الفترة كقوة مهمة، حيث بدأ الرومان من جهتهم يتدخلون في شؤون المنطقة للدفاع عن مصالحهم، خاصة أنها كانت ولفترة من الزمن تحارب أعمال القرصنة في سواحل شرق المتوسط. لذلك وضمن هذه الظروف، كلّف مجلس الشيوخ الروماني القائد لوكولوس لقيادة الحرب ضد تيكران.

اقرأ أيضاً:  الحيثيون: الحضارة والثقافة في سوريا القديمة

التحولات في الحكم خلال العصر الروماني

واستطاع لوكولوس أن ينتصر عليه سنة 69 ق.م وأن يطرده من أنطاكيا. وهكذا وعد لوكولوس الأمير السلوقي أنطيوخيوس الثالث عشر بإعطائه عرش المملكة السلوقية. لكن هذا الأمير كان بحاجة إلى دعم محلي وبشكل خاص إلى قوة الأمير شمشجرام الحمصي، الذي ظهر في هذه الأحداث كشخصية مهمة.

وظهر في هذه الفترة أمير عربي آخر يسمى عزيز، كان يحكم منطقة حلب، وبدأ يتدخل في صراعات الدولة السلوقية، وقد منح دعمه لأمير سلوقي آخر هو فيليب الثاني خصم أنطيوخيوس الثالث عشر.

الفترة المزدهرة تحت حكم أغسطس

ولكن مع تطور الأحداث، فإن الأميرين شمشجرام وعزيزاً تخليا عن التحالفات مع الأمراء السلوقيين، خاصة بعد علمهما بمجيء القائد الروماني بومبيوس إلى سورية، الذي قام باحتلالها، ودخلت سورية ومناطق عديدة من بلاد الشام تحت السيطرة الرومانية سنة 64 ق.م.

بعد سيطرة بومبيوس على الدولة السلوقية بدأ بتنظيم شؤون سورية الداخلية، فقد حصل شمشجرام على أملاكه في الرستن ومنطقة حمص، مثل بقية الأمراء الذين حصلوا أيضاً على أملاكهم، وسار بومبيوس بعد ذلك نحو البتراء لإخضاعها، ولكنه تلقى نبأ موت ميتريدات فترك قيادة الحملة لنائبه وعاد إلى أنطاكيا، فاحتفظت أغلب المدن السورية بالحكم الذاتي. بدأت الحروب الأهلية في بدايات العصر الروماني في سورية خلال النصف الثاني من القرن الأول قبل الميلاد بين قادة الرومان للسيطرة على العرش، وقد انعكس ذلك سلباً على مناطق بلاد الشام إلى أن وصل أغسطس إلى عرش الإمبراطورية في سنة 27 ق.م، لتعيش المنطقة بعدها فترة طويلة من الازدهار والسلام خلال عهده، واستمر هذا السلام في مناطق بلاد الشام خلال عهود أغلب الأباطرة الذين حكموا روما خلال القرون الثلاثة الميلادية، وقد انعكس ذلك على العمران في مدن بلاد الشام خلال هذا العصر.

خاتمة

في ختام هذه المقالة، نجد أن العصور الكلاسيكية في سوريا كانت فترة غنية بالأحداث والتحولات السياسية والاجتماعية التي تركت بصماتها الواضحة على المدن السورية. من دخول الإسكندر المقدوني إلى المنطقة وبدء العصر الهلنستي، مرورًا بالصراعات بين السلوقيين والبطالمة، وحتى وصول الرومان وسيطرتهم على المنطقة، شهدت سوريا تحولات جذرية في تنظيم مدنها وبنيتها الاجتماعية والثقافية. المدن السورية القديمة مثل دمشق وحلب وحماة تكيفت مع هذه التغيرات وشهدت إعادة تنظيم وتخطيط، مما أسهم في تعزيز مكانتها كمراكز حضارية مزدهرة.

تلك المدن لم تكن مجرد معاقل حضارية، بل كانت أيضًا شاهدًا على صراعات القوى العظمى وتأثيرها على المشرق العربي. إن دراسة تلك الفترة التاريخية الهامة تساعدنا على فهم أعمق لتاريخ سوريا والمنطقة، وكيفية تشكل الهوية الثقافية والجغرافية على مر العصور. ويبقى التراث الأثري والمعماري في تلك المدن خير شاهد على عظمة الحضارات التي تعاقبت على هذه الأرض، مما يجعل من دراسة تاريخ سوريا الكلاسيكي موضوعًا شيقًا ومهمًا للكثيرين من الباحثين والهواة على حد سواء.

اقرأ أيضاً:  مواقع إنسان ما قبل التاريخ في سورية

الأسئلة الشائعة

1. ما هو العصر الهلنستي؟

   – العصر الهلنستي هو الفترة التاريخية التي بدأت بدخول الإسكندر المقدوني إلى المشرق العربي واحتلاله لبلاد الشام حوالي سنة 333 ق.م، وتميزت بتأثير الثقافة اليونانية في المنطقة.

2. من كان الإسكندر المقدوني؟

   – الإسكندر المقدوني كان قائدًا عسكريًا مقدونيًا قام بإنشاء إمبراطورية واسعة امتدت من مقدونيا إلى الهند ومصر، ودخل المشرق العربي عام 333 ق.م.

3. ما هي الدولة السلوقية؟

   – الدولة السلوقية هي واحدة من الدول التي تأسست بعد وفاة الإسكندر المقدوني. حكمها سلالة من القادة العسكريين الذين أسسوا عاصمتهم في أنطاكيا وسيطروا على المناطق الممتدة من شرق البحر المتوسط حتى الهند.

4. ما هي الحروب السورية؟

   – الحروب السورية هي سلسلة من النزاعات العسكرية التي جرت بين الدولة السلوقية والدولة البطلمية للسيطرة على بلاد الشام خلال القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد.

5. كيف أثرت الثقافة اليونانية على المدن السورية؟

   – الثقافة اليونانية أثرت على المدن السورية من خلال إعادة تخطيطها، وإطلاق أسماء جديدة عليها، وبناء مدن جديدة وفق التخطيط الهندسي اليوناني مثل أنطاكية وأفاميا.

6. ما هي التحديات التي واجهتها الدولة السلوقية؟

   – الدولة السلوقية واجهت تحديات داخلية مثل التنافس بين أفراد الأسرة السلوقية على العرش، وتحديات خارجية من الدول المجاورة مثل الدولة البطلمية في الجنوب والبارثية في الشرق، بالإضافة إلى تدخل الرومان في شؤونهم.

7. من هو أنطيوخوس الثالث؟

   – أنطيوخوس الثالث كان ملكًا سلوقيًا حكم بين عامي 223 و187 ق.م، واستطاع استعادة العديد من المناطق في جنوب سورية خلال فترة حكمه.

8. ما هو دور الرومان في بلاد الشام خلال العصر الكلاسيكي؟

   – الرومان تدخلوا في شؤون بلاد الشام بشكل كبير، واستطاعوا في النهاية السيطرة على المنطقة عام 64 ق.م، ونظموا شؤونها الداخلية وأسسوا نظام حكم روماني فيها.

9. كيف كانت الحياة اليومية في المدن السورية خلال العصور الكلاسيكية؟

   – الحياة اليومية في المدن السورية خلال العصور الكلاسيكية كانت مزدهرة بتأثير الثقافة اليونانية والرومانية، مع وجود تطور في العمارة والبنية التحتية، وازدهار الأنشطة التجارية والثقافية.

10. ما هو التأثير طويل الأمد للسيطرة الرومانية على سوريا؟

    – السيطرة الرومانية جلبت فترة من الازدهار والسلام في بلاد الشام، خاصة خلال حكم الإمبراطور أغسطس، وانعكست هذه الفترة على العمران وتطور المدن، واستمر هذا التأثير الإيجابي طيلة القرون الثلاثة الميلادية الأولى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى