أفامية: مدينة التاريخ والحضارة في العصور الكلاسيكية
تُعتبر مدينة أفامية واحدة من أبرز المدن التاريخية في سوريا، حيث تتجلى فيها روعة الحضارة والتطور العمراني منذ تأسيسها في عام 300 ق.م. أسسها الملك سلوقس نيكاتور ضمن إطار تخطيط إستراتيجي لتكون عاصمة عسكرية هامة وحصناً دفاعياً ضد الأعداء. تحتل أفامية مكانة مميزة بين المدن الكلاسيكية لكونها مركزاً ثقافياً ودينياً وتجارياً بارزاً خلال العصرين الهلنستي والروماني. تزخر هذه المدينة الغنية بالتاريخ بالعديد من المعالم الأثرية التي تحمل بين طياتها قصص العظمة والازدهار. من معابدها وحماماتها الشهيرة إلى شارع الأعمدة الذي يعبر عن تنظيمها المعماري المهيب، تشكل أفامية لوحة فنية تعكس تطور الحضارات التي مرت عليها. في هذه المقالة، سنستكشف تاريخ أفامية، أبحاث التنقيب التي أجريت فيها، والتحديات التي واجهتها عبر العصور، ما يساهم في فهم أعمق لهذه المدينة التاريخية الفريدة.
تأسيس أفامية وأهميتها
تعد مدينة أفامية الواقعة على بعد 55 كم شمال غربي مدينة حماة، إحدى المدن الأربعة التي أسسها الملك سلوقس نيكاتور سنة 300 ق.م في شمال سورية في أنطاكية وسلوقية البحر واللاذقية، وثاني أكبر مدينة بعد أنطاكية خلال العصور الكلاسيكية، إضافة إلى أنها كانت تعد العاصمة العسكرية للدولة السلوقية، وحصن هام لانطلاق الحملات العسكرية ضد الدولة البطلمية في مصر وجنوب بلاد الشام بسبب وقوعها في موقع إستراتيجي دفاعي فوق هضبة مطلة على سهل الغاب، ولأهميتها منحها الملك السلوقي أنطيوخوس الرابع (175ـ 164 ق.م) امتيازات عديدة، خاصة حق سك العملة باسمها. كما كانت لمدينة أفامية أهمية تجارية وكذلك دينية حيث كانت مركز عبادة للإله بعل ـ زيوس (Zeus-Belos)، وتمتعت بأهمية ثقافية أيضاً خلال العصرين الهلنستي والروماني، حيث برزت منها شخصيات فكرية هامة مثل بوسيدونيوس الأفامي، الذي يعد من أهم فلاسفة المدرسة الرواقية.
البعثات الأثرية والدراسات
يرجع الفضل إلى طومسون (W.M.Thomson) في سنة 1846 في تحديد موقع أفاميا، كما أفادت الدراسات التي قام بها ساشو (E.Sahau) في سنة 1880 ثم بتلر (H.C.Butler) في سنة 1900 في وضع أولى المخططات لمدينة أفامية.
بدأت أولى البعثات التنقيبية في أفامية في سنة 1928 بإدارة كومون (F.Cumont)، وقام بتحريات أثرية عنها، في سنة 1930 شُكِّلت بعثة أثرية بلجيكية، ولعدة مواسم بإدارة فرانس مايانس (F.Mayence) واستمرت حتى سنة 1938م، وفي سنتي 1947م و1953م عملت بعثة أخرى بإدارة هنري لاكوست (H.Lacoste)، حيث تم إعداد مخطط طبوغرافي دقيق للموقع مع تحديد مواقع المباني الثرية فيه، ساعدت على فهم طبيعة الموقع بشكل واضح. وفي سنة 1965م أصبحت تعمل في الموقع بعثة سورية ـ بلجيكية مشتركة يديرها من الجانب البلجيكي جان شارل بالتي (J.CH.Balty) ومن الجانب السوري عبد الرزاق زقزوق ولا تزال أعمال التنقيب مستمرة حتى يومنا الحالي.
تخطيط مدينة أفامية والهياكل المعمارية
تم تخطيط المدينة وفق طبوغرافية الموقع مما يعطيها تخطيطاً غير منتظم، بلغت مساحتها 225 هكتاراً وطول سورها حواي 8 كم تم تدعيمه بمئة برج.
يرى جان شارك بالتي أن مخطط المدينة هو مخطط هلنستي، إذ أجريت فيها بعض التنقيبات الأثرية التي بيّنت في بعض أجزاء سور المدينة لا سيما الشمالي منها أساسات عائدة إلى العصر الروماني والبيزنطي. وللسور أبراج لا تملك نفس الحجم حيث تميزت الأبراج العريضة الهلنستية بتغير في اتجاه الجدار، أما الأبراج الرومانية فقد كانت أصغر حجماً، ويفترض أن السور قد أقيم بعد إنشاء المدينة بحوالي مئة سنة من تأسيس المدينة في بداية العصر الهلنستي.
إعادة بناء مدينة أفامية وتطورها
أعاد الإمبراطور كلوديوس بناء مدينة أفامية في منتصف القرن الأول الميلادي لكن بعد تعرضها إلى زلزال سنة 115من تراجعت الحياة فيها إذ انطوت المدينة على نفسها داخل حدود أسوارها. بعد تلك الكارثة عادت الحياة للمدينة وشهدت نهضة معمارية واضحة انعكست على أبنيتها المعمارية من معابد وحمامات ومسرح وأسوار كما تم تخطيط المدينة من جديد وفق مقياس مختلف وتم تنظيم شوارعها، لا سيما الشارعين الرئيسين اللذين يقطعان المدينة من الشمال وحتى الجنوب، (الكاردو) بطول 2 كم وعرض 37.5 م، ومن الشرق حتى الغرب (الديكومانوس).
حسب رأي إرنست فيل فإن المدينة كانت قد أنشئت خلال العصر الهلنستي وفق مخطط أقل حجماً من مخطط المدينة الحالي ويعود إلى العصر الروماني، فلو كانت بنفس المساحة السابق ذكرها، وبنفس مقياس الشوارع الرئيسة فيها فإن المدينة تكون قد تجاوزت حجم مساحة مدينة أنطاكية، التي كانت كما هو معروف عاصمة للدولة السلوقية. ولا تزال الدراسات والنقاشات مستمرة حول طبيعة تنظيم هذا الموقع وأبعاده خلال العصرين الهلنستي والروماني. تعرضت المدينة إلى هجمات عديدة من قبل الجيوش الساسانية وزلازل مدمرة خلال القرن السادس الميلادي، مما خلف دماراً في هذه المدينة.
يفترض بأن تاريخ إنشاء الشارع الشمالي الجنوبي أو ما يعرف بالكاردو يعود إلى العصر الهلنستي، ولكن صفوف الأعمدة ذات التخطيط الحلزوني مع تيجانها الكورنثية فتعود إلى منتصف القرن الثاني الميلادي، شيدت بعد أن أصاب المدينة الزلزال المدمر سنة 115م، ويمكن الافتراض من خلال التزيينات الموجودة فيها بأن البرنامج الترميمي قد بدأ من سنة 116 م في نهاية عهد الإمبراطور تراجانوس (Trajanus) وامتدت حتى نهاية القرن الثاني للميلاد خلال عهد الامبراطور سبتيموس سيفيروس. ولا بد من الإشارة بأن هذا الشارع قد تعرض أيضاً خلال القرون اللاحقة إلى تدمير بفعل الزلازل في سنتي 526و528م لذلك تم إجراء أعمال ترميم أخرى لهذا الشارع.
يبدأ الشارع في أقصى الشمال بباب يعرف بالباب الشمالي أو باب أنطاكية، بني في القرن الثاني للميلاد وجدد في القرن السادس، حيث أضيفت واجهة جديدة في الجهة الجنوبية منه. يشتمل على باب ذي فتحة مقوسة واحدة ودعم بمشاك عالية ومزين بحوامل وكان مدعماً بأبراج.
معالم مدينة أفامية الرئيسية
أول المباني المبنية على أحد طرفي الشارع من جهة الشمال هو معبد الحوريات، فقد تبين من خلال الدراسات الأثرية التي تمت في المكان بأن تاريخ بنائه يعود إلى الفترة الواقعة قبل سنة 115م، عندما تم البدء بمشروع كبير يهدف إلى ترميم المدينة بعد الزلزال. كما نجد باتجاه الجنوب الحمامات، وقد كُرِّست من أجل صحة الإمبراطور تراجانوس، وتبدو العناصر الرئيسة لهذا المبنى واضحة ويمكن التعرف على مخططها المعماري بشكل واضح. إلى الجنوب من الحمامات على بعد 150م، وفي منتصف الشارع العام، نجد عموداً تذكارياً عالياً يصل ارتفاعه إلى نحو 14م، ويمثل نقطة تقاطع مع أحد الشوارع الفرعية، الواقع في الربع الأول من الشارع في جهة الشمال. بالقرب من هذا التقاطع وإلى الشرق منه يقع مبنى ذو واجهة ضخمة ذو جبهة مثلثية الشكل، تنتمي إلى بهو المدخل (الأروقة المعمدة) واعتقد سابقاً أن هذا المبنى عبارة عن معبد إلهة الحظ فورتونا تيكي أو تيخي (Tyché) حامية المدينة، لكن بينت الدراسات الأثرية أن هذا المعبد يقع في موقع آخر من الشارع العام على بعد حوالي مئة وخمسين متراً نحو الجنوب باتجاه مركز المدينة، وهو في حالة من الخراب الكبير. وعلى مسافة قصيرة نجد الآغورا بمساحة 45×150م، يبدو أن تاريخ بنائها يعود إلى عهد الإمبراطور هادريانوس (Hadrianus) وإلى الغرب من الآغورا كان يرتفع معبد وحي زيوس بيلوس، ولم يبق منه سوى كتلة الأساس، حيث تم تدميره خلال القرن الرابع الميلادي، بسبب تعصب الأسقف مركيلوس الذي أمر بتدمير المباني الوثنية في المدينة، وإلى الجنوب من الشارع وفي الوسط نجد هيكل حوريات الماء.
أما مبنى التريكلينوس (قصر الحاكم) الذي يقع على شارع الديكومانوس في جهة الغرب، وعلى بعد أربعمئة متر من الشارع العام الكاردو، فيتألف من باحة معمدة 8×8، تنفتح عليها قاعات \، وحولها باحتان ثانويتان أصغر حجماً، وتم الكشف عن عدد من اللوحات الفسيفسائية التي تعود إلى فترات مختلفة خاصة من القرن الرابع الميلادي. إلى الشمال مباشرة من هذا المبنى بجد المساكن الخاصة، وعلى المحور نفسه من شارع الديكومانوس في جهة الغرب يقع المسرح الذي يعد أكبر مسرح في سورية خلال العصر الروماني.
خاتمة
تظل مدينة أفامية شاهدة على عبقرية التصميم والهندسة التي أبدعها الإنسان في العصور الكلاسيكية. من موقعها الاستراتيجي على هضبة تطل على سهل الغاب إلى شوارعها المرصوفة بالأعمدة وتاريخها الغني بالأحداث والشخصيات، تتجلى فيها الروح الحية للتاريخ والحضارة. عبر الأبحاث والتنقيبات الأثرية التي استمرت لعقود، كُشِف النقاب عن جوانب متعددة من حياة هذه المدينة التي شكلت مركزاً حضارياً وثقافياً هاماً خلال العصرين الهلنستي والروماني. اليوم، تتحدث آثارها الباقية بلغتها الخاصة، مروية قصصاً عن العظمة والازدهار والتحديات التي واجهتها عبر العصور. تُعد أفامية رمزاً للتراث الإنساني الثري، ومرجعاً هاماً للباحثين والهواة على حد سواء لفهم المزيد عن التاريخ المعماري والثقافي للمنطقة. اكتشافاتها المستمرة تعزز من قيمتها ككنز أثري لا يزال يحمل في طياته الكثير من الأسرار بانتظار الكشف عنها.
الأسئلة الشائعة
1. متى تأسست مدينة أفامية ومن أسسها؟
-تأسست مدينة أفامية في عام 300 ق.م على يد الملك سلوقس نيكاتور.
2. ما هي الأهمية العسكرية لمدينة أفامية؟
-كانت أفامية عاصمة عسكرية للدولة السلوقية وحصناً دفاعياً هاماً ضد الحملات العسكرية للدولة البطلمية في مصر وجنوب بلاد الشام.
3. ما هي الأهمية التجارية والدينية لأفامية؟
-كانت أفامية مركزاً تجارياً ودينياً بارزاً، حيث كانت مركزاً لعبادة الإله بعل ـ زيوس وتمتع سكانها بحقوق وامتيازات عديدة من الملك السلوقي أنطيوخوس الرابع.
4. من هو الباحث الذي حدد موقع أفامية لأول مرة؟
-حدد موقع أفامية لأول مرة الباحث طومسون (W.M.Thomson) في عام 1846.
5. ما هي أهم الأعمال الأثرية التي تمت في أفامية؟
-بدأت أولى البعثات التنقيبية في عام 1928 بإدارة كومون (F.Cumont) واستمرت عبر العقود بتوجيه العديد من البعثات الدولية والسورية، مما ساعد في فهم طبيعة الموقع وتاريخه.
6. كيف تم تخطيط مدينة أفامية؟
-تم تخطيط المدينة وفق طبوغرافية الموقع مما أعطاها تخطيطاً غير منتظم، وبلغت مساحتها 225 هكتارًا وطول سورها حوالي 8 كم.
7. ما هي التحولات التي شهدتها المدينة خلال العصر الروماني؟
-أعاد الإمبراطور كلوديوس بناء المدينة بعد زلزال سنة 115م، وشهدت نهضة معمارية جديدة انعكست على أبنيتها من معابد وحمامات وشوارع منظمة.
8. ما هو شارع الكاردو وما أهميته؟
-شارع الكاردو هو أحد الشوارع الرئيسة في أفامية يمتد من الشمال إلى الجنوب، ويبلغ طوله 2 كم وعرضه 37.5 م، وزين بصفوف من الأعمدة ذات التخطيط الحلزوني والتيجان الكورنثية.
9. ما هي أهم المعالم الأثرية في أفامية؟
-تشمل أهم المعالم الأثرية في أفامية معبد الحوريات، الحمامات الإمبراطورية، العمود التذكاري، الآغورا، معبد زيوس بيلوس، وهيكل حوريات الماء.
10. هل أفامية مدينة رومانية أم سلوقية أم هلنستية؟
-أفامية هي مدينة تأسست في العهد السلوقي، وتحديداً في عام 300 ق.م على يد الملك سلوقس نيكاتور. وبما أن السلوقيين كانوا أحد الفروع الهامة للعصر الهلنستي، يمكن القول إن أفامية تعود إلى العصر الهلنستي وتعتبر جزءاً منه.
إذاً، المدينة سلوقية من حيث التأسيس والإدارة، ولكنها أيضاً تنتمي إلى العصر الهلنستي الأوسع، الذي شهد تأثيرات كبيرة للثقافة اليونانية على المنطقة بأكملها.