صناعة كراسي القش: كيف حافظت على مكانتها في التراث السوري؟
ما هي أسرار هذه الحرفة اليدوية العريقة وطرق تطويرها؟

تمثل الحرف اليدوية التقليدية جزءاً لا يتجزأ من الهوية الثقافية للشعوب، وتحمل في طياتها قصصاً من الإبداع والمهارة المتوارثة عبر الأجيال. ومن بين هذه الحرف التي حافظت على بريقها رغم التقدم الصناعي، تبرز صناعة كراسي القش كواحدة من أعرق الصناعات التراثية السورية التي ما زالت تنبض بالحياة حتى يومنا هذا.
المقدمة
تُعَدُّ صناعة كراسي القش من أقدم الحرف اليدوية التي عرفتها سوريا منذ مئات السنين، حيث تجذرت هذه المهنة في المدن والقرى السورية وأصبحت جزءاً من النسيج الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع. هذه الصناعة التقليدية التي تعتمد على مواد طبيعية بسيطة، تحولت بفضل مهارة الحرفيين السوريين إلى فن رفيع يجمع بين الوظيفية والجمال.
صناعة كراسي القش السورية ليست مجرد حرفة لإنتاج قطع أثاث، بل هي تراث ثقافي يحكي قصة شعب وحضارة. فمن خلال أيدي الحرفيين الماهرين، تتحول سيقان القش البسيطة إلى مقاعد مريحة وجميلة تزين البيوت السورية. وقد انتقلت هذه المهارة من جيل إلى آخر، محافظة على أساليبها التقليدية مع إضافة لمسات من الإبداع المعاصر. إن فهم صناعة كراسي القش يتطلب الغوص في تفاصيلها الدقيقة، من اختيار المواد الخام وحتى اللمسات النهائية التي تميز كل قطعة عن الأخرى.
الجذور التاريخية لصناعة كراسي القش في التراث السوري
ترتبط صناعة كراسي القش ارتباطاً وثيقاً بالتاريخ السوري العريق، حيث تشير الوثائق والمصادر التاريخية إلى أن هذه الحرفة نشأت في سوريا وانتشرت منها إلى مناطق أخرى من بلاد الشام والمنطقة العربية. فالسوريون كانوا من أوائل من ابتكروا فكرة استخدام القش والحلفاء (Esparto Grass) في صناعة المقاعد، مستفيدين من وفرة هذه المواد في البيئة الطبيعية المحيطة بهم. وقد تميزت المدن السورية القديمة مثل دمشق وحلب وحماة بانتشار ورش صناعة كراسي القش في أسواقها التقليدية.
تطورت صناعة كراسي القش في سوريا عبر العصور، حيث كانت تلبي احتياجات مختلف الطبقات الاجتماعية. ففي البيوت الدمشقية العتيقة، كانت هذه الكراسي تزين الساحات الداخلية والليوان، مضيفة لمسة من الأناقة والراحة. وفي الأرياف السورية، كانت صناعة كراسي القش تمثل نشاطاً اقتصادياً مهماً للعديد من العائلات التي توارثت هذه المهنة أباً عن جد.
الحرفيون السوريون لم يكتفوا بالوظيفة الأساسية للكرسي، بل أضافوا إليه عناصر جمالية وزخرفية جعلته قطعة فنية بحد ذاته. فقد كانوا يستخدمون تقنيات خاصة في الضفر والنسج، وكان كل حرفي يضع بصمته الخاصة على منتجاته. هذا التفرد في صناعة كراسي القش السورية جعلها مطلوبة ليس فقط محلياً، بل أيضاً في الأسواق الإقليمية، حيث كان التجار يصدرونها إلى بلدان مجاورة. وبذلك أصبحت صناعة كراسي القش رمزاً من رموز الحرفية السورية المتميزة.
المواد الخام الطبيعية المستخدمة
تعتمد صناعة كراسي القش بشكل أساسي على مواد طبيعية متوفرة في البيئة السورية، وأهمها القش الطبيعي والحلفاء التي تنمو في المناطق الريفية والبادية. يتم جمع هذه المواد في مواسم محددة من السنة، حيث يختار الحرفيون السيقان القوية والمرنة في آن واحد. كما يُستخدم الخشب الصلب لصناعة الهيكل الخارجي للكرسي، ويفضل الحرفيون أنواعاً معينة من الأخشاب مثل الزان أو الجوز أو التوت لمتانتها وقدرتها على التحمل.
إلى جانب القش والخشب، تتطلب صناعة كراسي القش مواد إضافية مثل الحبال الطبيعية المصنوعة من ألياف القطن أو الكتان، والتي تُستخدم لربط أجزاء الكرسي ببعضها. كذلك يستعمل الحرفيون الأصباغ الطبيعية لتلوين القش في بعض الحالات، مما يضيف تنوعاً جمالياً للمنتج النهائي. عملية اختيار المواد الخام تُعَدُّ من أهم مراحل صناعة كراسي القش، إذ أن جودة المواد تؤثر مباشرة على متانة الكرسي وعمره الافتراضي.
يقوم الحرفيون بمعالجة المواد الخام قبل استخدامها في صناعة كراسي القش، حيث يتم تجفيف القش بطرق خاصة للحفاظ على مرونته ومنع تعفنه. أما الخشب فيُترك ليجف طبيعياً لفترة قد تمتد لعدة أشهر قبل البدء في تشكيله. هذه العناية بالمواد الأولية تعكس عمق المعرفة التقليدية التي يمتلكها صناع الكراسي السوريون، والتي اكتسبوها من خلال التجربة والخبرة الممتدة عبر القرون.
أدوات ومعدات الحرفة التقليدية
الأدوات الأساسية في صناعة كراسي القش
تتميز صناعة كراسي القش باستخدامها لمجموعة من الأدوات التقليدية البسيطة التي تعكس أصالة هذه الحرفة، ومن أهمها:
- المنشار اليدوي: يُستخدم لقطع الخشب وتشكيل إطار الكرسي بالأبعاد المطلوبة، ويتطلب مهارة عالية لضمان الدقة في القياسات.
- المثقاب التقليدي: أداة ضرورية لعمل الثقوب في الهيكل الخشبي، والتي يتم من خلالها تثبيت أجزاء الكرسي المختلفة.
- السكين الحاد: يُستعمل لتقليم وتهذيب القش، وإزالة الأجزاء غير المرغوبة، ويحتاج إلى صيانة مستمرة للحفاظ على حدته.
- المخرز أو الشوكة: أداة مدببة تساعد في إدخال خيوط القش بين الثقوب الضيقة، وهي من الأدوات المميزة في صناعة كراسي القش.
- المطرقة الخشبية: تُستخدم لتثبيت المسامير والوصلات دون إتلاف الخشب.
- أدوات القياس: مثل المسطرة والفرجار التي تضمن التناسق والتناسب الصحيح لأجزاء الكرسي.
مراحل التصنيع والإنتاج التفصيلية
تمر صناعة كراسي القش بعدة مراحل متتابعة ومعقدة، تبدأ بتصميم الهيكل الخشبي للكرسي حيث يقوم الحرفي برسم مخطط أولي يحدد فيه أبعاد الكرسي وشكله. ثم يتم قطع الخشب وفقاً لهذه المقاسات، مع الحرص على تنعيم الحواف وإزالة أي نتوءات قد تؤثر على الشكل النهائي. بعد ذلك، تُحفر الثقوب اللازمة في أماكن محددة من الهيكل، وهي خطوة حاسمة تتطلب دقة متناهية لأن أي خطأ فيها يؤثر على متانة الكرسي.
المرحلة التالية في صناعة كراسي القش هي تجميع الهيكل الخشبي، حيث تُثبت قوائم الكرسي الأربعة مع المساند والعوارض الأفقية باستخدام تقنيات النجارة التقليدية. يعتمد الحرفيون السوريون على نظام التعشيق (Mortise and Tenon) الذي لا يحتاج إلى مسامير في كثير من الأحيان، مما يعطي الكرسي قوة إضافية ومظهراً جمالياً نظيفاً. وبعد التأكد من متانة الهيكل واستقراره، تبدأ عملية نسج القش على السطح العلوي للمقعد.
عملية النسج في صناعة كراسي القش تُعَدُّ الأكثر صعوبة ودقة، حيث يبدأ الحرفي بنقع القش في الماء لجعله أكثر مرونة وسهولة في التشكيل. ثم يُمرر خيوط القش عبر ثقوب الإطار بنمط متقاطع ومحكم، مع الشد المستمر لضمان الصلابة والراحة. يستخدم الحرفيون أنماطاً مختلفة من الضفر والنسج، بعضها بسيط وبعضها معقد يشكل زخارف هندسية جميلة.
بعد إتمام نسج المقعد، يأتي دور التشطيب النهائي في صناعة كراسي القش، حيث يتم قص الأطراف الزائدة من القش وتثبيتها بإحكام. ثم يُطلى الهيكل الخشبي بمواد واقية طبيعية مثل زيت الكتان أو شمع العسل، مما يحمي الخشب من التلف ويبرز جماله الطبيعي. في بعض الحالات، يضيف الحرفيون زخارف إضافية أو نقوشاً على الخشب، خاصة في الكراسي المخصصة للمناسبات الخاصة أو البيوت الراقية.
أنواع وتصاميم الكراسي المتنوعة
تتنوع أشكال وتصاميم صناعة كراسي القش السورية بحسب الاستخدام والمكان، فهناك الكرسي الفردي البسيط الذي يُستخدم في غرف الجلوس والحدائق المنزلية، ويتميز بخفة وزنه وسهولة نقله. وهناك أيضاً الكراسي ذات المساند العالية المزخرفة التي كانت شائعة في البيوت الدمشقية التقليدية، والتي تعكس مستوى رفيعاً من الحرفية والفن. كما تشمل صناعة كراسي القش إنتاج مقاعد طويلة تتسع لأكثر من شخص واحد، تُعرف محلياً بـ”الدكة”.
في المناطق الريفية السورية، تأخذ صناعة كراسي القش طابعاً أكثر بساطة ووظيفية، حيث تُنتج كراسي عملية متينة تتحمل الاستخدام اليومي الكثيف. بينما في المدن، وخاصة في دمشق وحلب، تطورت التصاميم لتشمل عناصر زخرفية أكثر تعقيداً، مثل النقوش على الخشب والتطعيم بالصدف أحياناً. هذا التنوع في صناعة كراسي القش يعكس قدرة الحرفيين السوريين على التكيف مع احتياجات مختلف الفئات الاجتماعية.
تختلف أنماط النسج المستخدمة في صناعة كراسي القش أيضاً، فهناك النمط المربع البسيط الذي يتكون من خيوط متعامدة، والنمط الحلزوني الذي يبدأ من المركز ويتوسع نحو الخارج، والنمط السداسي المعقد الذي يتطلب مهارة عالية وصبراً كبيراً. كل نمط له خصائصه من حيث المتانة والراحة والجمالية، ويختار الحرفي النمط المناسب بحسب نوع الكرسي والغرض منه.
المهارات الفنية والخبرات المطلوبة
القدرات الحرفية الأساسية
تتطلب صناعة كراسي القش مجموعة من المهارات الفنية والقدرات اليدوية التي لا يمكن اكتسابها إلا من خلال التدريب الطويل والممارسة المستمرة، وأهمها:
- الدقة في القياس: القدرة على أخذ القياسات الصحيحة وتطبيقها بدقة لضمان التوازن والتناسق في الكرسي.
- مهارة النجارة: معرفة أساليب قطع الخشب وتشكيله ووصل أجزائه بطرق متقنة.
- براعة النسج: إتقان تقنيات ضفر القش ونسجه بأنماط مختلفة، وهي المهارة الأصعب في صناعة كراسي القش.
- الحس الجمالي: القدرة على الموازنة بين الوظيفية والجمال، واختيار التصاميم والألوان المناسبة.
- الصبر والتأني: فصناعة كراسي القش عمل يحتاج إلى ساعات طويلة من التركيز والعمل الدقيق.
- المعرفة بالمواد: فهم خصائص الأخشاب المختلفة وأنواع القش وكيفية معالجتها.
الأهمية الاقتصادية والاجتماعية
تمثل صناعة كراسي القش مصدر رزق أساسياً للعديد من العائلات السورية، خاصة في المناطق الريفية حيث تُعَدُّ هذه الحرفة نشاطاً اقتصادياً موسمياً أو دائماً حسب الطلب. فالحرفيون يبيعون منتجاتهم في الأسواق المحلية والمعارض الحرفية، كما يتلقون طلبيات خاصة من الزبائن. وقد ساهمت صناعة كراسي القش في توفير فرص عمل لا تتطلب رأس مال كبير أو تعليماً جامعياً، مما جعلها متاحة لشرائح واسعة من المجتمع.
من الناحية الاجتماعية، تُعَدُّ صناعة كراسي القش نشاطاً يعزز الروابط الأسرية والمجتمعية، حيث غالباً ما يعمل أفراد العائلة الواحدة معاً في ورشة واحدة. الأب يعلم أبناءه، والأم تساعد في إعداد المواد أو في بعض مراحل النسج، والأبناء يتعلمون المهنة تدريجياً. هذا التعاون العائلي في صناعة كراسي القش يحافظ على التماسك الاجتماعي وينقل القيم والتقاليد من جيل إلى آخر.
كذلك لعبت صناعة كراسي القش دوراً في الحفاظ على الهوية الثقافية السورية، فهي تمثل استمرارية للحرف التقليدية في عصر الصناعات الحديثة. الكرسي المصنوع من القش ليس مجرد قطعة أثاث، بل هو رمز للأصالة والارتباط بالجذور. عندما يجلس الإنسان على كرسي من صنع يدوي سوري، فإنه يتصل بتراث عريق وتاريخ طويل من الإبداع الحرفي.
التحديات المعاصرة والصعوبات
تواجه صناعة كراسي القش في العصر الحالي تحديات متعددة، أولها المنافسة الشديدة من الأثاث الحديث المصنوع بالطرق الصناعية. فالكراسي البلاستيكية والمعدنية رخيصة الثمن ومتوفرة بكثرة، مما أدى إلى انخفاض الطلب على الكراسي التقليدية. هذا التراجع في الطلب أثر سلباً على عدد الحرفيين العاملين في صناعة كراسي القش، حيث هجر كثيرون هذه المهنة بحثاً عن مصادر دخل أكثر استقراراً.
التحدي الثاني يتمثل في صعوبة نقل المهارة إلى الأجيال الجديدة، فالشباب السوريون أصبحوا أقل اهتماماً بتعلم الحرف اليدوية التقليدية، ويفضلون المهن الحديثة أو التعليم الأكاديمي. هذا أدى إلى شيخوخة قاعدة الحرفيين في صناعة كراسي القش، مع عدم وجود خلف كافٍ يضمن استمرارية هذا التراث. كما أن تعلم صناعة كراسي القش يحتاج إلى وقت طويل وصبر كبير، وهو ما لا يتوافق مع إيقاع الحياة السريع اليوم.
من التحديات أيضاً ارتفاع أسعار المواد الخام في بعض الأحيان، خاصة الأخشاب الجيدة التي أصبحت نادرة أو مكلفة. كما أن القش الطبيعي عالي الجودة لم يعد متوفراً بسهولة كما كان في الماضي، بسبب التغيرات في أنماط الزراعة واستخدام الأراضي. بالإضافة إلى ذلك، تعاني صناعة كراسي القش من نقص في الدعم الحكومي والمؤسساتي، حيث لا توجد برامج كافية لحماية الحرف التقليدية ودعم الحرفيين.
استخدامات الكراسي في الحياة اليومية
تتميز المنتجات الناتجة عن صناعة كراسي القش بتنوع استخداماتها في البيت السوري التقليدي والحديث على حد سواء. ففي الماضي، كانت هذه الكراسي تُستخدم في جلسات السمر العائلية، حيث يجتمع أفراد الأسرة في فناء المنزل أو على السطح في الأمسيات الصيفية. كما كانت موجودة في المضافات التي يستقبل فيها أصحاب البيوت ضيوفهم، لأنها مريحة وتعطي انطباعاً بالأصالة والكرم.
في العصر الحالي، ما زالت صناعة كراسي القش تجد مكانها في المنازل السورية، لكن بأشكال متطورة. فبعض العائلات تستخدمها في شرفات المنازل أو الحدائق المنزلية، حيث تضفي جواً من الطبيعة والراحة. كما أن المقاهي والمطاعم التراثية تستخدم هذه الكراسي لإعطاء المكان طابعاً تقليدياً يجذب الزبائن الباحثين عن أجواء أصيلة.
تُستخدم منتجات صناعة كراسي القش أيضاً كقطع ديكورية في المنازل العصرية، حيث يمزجها بعض المصممين مع الأثاث الحديث لخلق تباين جميل بين القديم والجديد. هذا الاتجاه ساهم في إعادة الاهتمام بالكراسي التقليدية، وأعطاها قيمة جمالية إضافية تتجاوز وظيفتها الأساسية. كما أن بعض الكراسي المصنوعة بحرفية عالية تُقتنى كقطع فنية تراثية، خاصة تلك التي تحمل نقوشاً وزخارف مميزة.
البعد البيئي والاستدامة
تُعَدُّ صناعة كراسي القش من الصناعات الصديقة للبيئة، حيث تعتمد بشكل كامل على مواد طبيعية قابلة للتحلل. فالقش والخشب من الموارد المتجددة التي لا تسبب تلوثاً بيئياً، على عكس المواد البلاستيكية والمعدنية التي تستهلك في صناعة الأثاث الحديث. هذا البعد البيئي يجعل من صناعة كراسي القش نموذجاً للإنتاج المستدام الذي يحترم الطبيعة ويحافظ على مواردها.
عملية الإنتاج في صناعة كراسي القش لا تستهلك طاقة كهربائية كبيرة، فمعظم العمل يتم يدوياً باستخدام أدوات بسيطة. كما أن النفايات الناتجة عن هذه الصناعة قليلة جداً ويمكن إعادة استخدامها أو تحويلها إلى سماد عضوي. هذا النهج في الإنتاج يتماشى مع التوجهات العالمية الحالية نحو الاستدامة والحفاظ على البيئة، مما يعطي صناعة كراسي القش ميزة تنافسية في الأسواق المهتمة بالمنتجات الخضراء.
من ناحية أخرى، تساهم صناعة كراسي القش في الحفاظ على التنوع الحيوي، حيث أن جمع القش يتم بطرق تقليدية لا تضر بالنباتات أو النظام البيئي. الحرفيون السوريون لديهم معرفة عميقة بمواسم نمو النباتات وأفضل أوقات الحصاد، مما يضمن استمرارية الموارد الطبيعية. هذه المعرفة التقليدية بالبيئة جزء لا يتجزأ من ثقافة صناعة كراسي القش، وتمثل حكمة متوارثة في التعامل مع الطبيعة.
الأسواق التقليدية ومراكز البيع
أماكن انتشار صناعة كراسي القش
تتركز ورش ومحلات صناعة كراسي القش في عدة مواقع تاريخية ومناطق معروفة في سوريا، منها:
- سوق الحميدية في دمشق: حيث توجد محلات متخصصة ببيع الكراسي التقليدية، وتُعَدُّ وجهة للسياح والباحثين عن المنتجات الأصيلة.
- الأسواق القديمة في حلب: التي كانت تشتهر بورش الحرفيين قبل أن تتضرر، وهناك جهود لإعادة إحيائها.
- سوق حماة: المعروف بانتشار الحرف اليدوية المختلفة بما فيها صناعة كراسي القش.
- القرى الريفية: خاصة في ريف دمشق وحماة وإدلب، حيث تُمارس هذه الحرفة بشكل موسمي أو دائم.
- المعارض الحرفية: التي تُقام دورياً لعرض وبيع المنتجات التراثية، وتساهم في تسويق منتجات صناعة كراسي القش.
القيمة الثقافية والرمزية
تحمل صناعة كراسي القش السورية قيمة ثقافية عميقة تتجاوز بكثير وظيفتها العملية، فهي تمثل جزءاً من الذاكرة الجماعية للشعب السوري. الكرسي القشي موجود في ذكريات الطفولة لأجيال متعاقبة، حيث كان جزءاً من المشهد اليومي في البيوت والمقاهي والحدائق. هذا الارتباط العاطفي بمنتجات صناعة كراسي القش يجعلها رمزاً للانتماء والهوية.
في الأدب والفنون السورية، ظهرت إشارات متعددة لصناعة كراسي القش والحرفيين الذين يمارسونها، مما يعكس مكانتها في الوعي الثقافي. الشعراء والكتاب السوريون تغنوا بجمال البيت الدمشقي التقليدي وأثاثه البسيط الذي يضم هذه الكراسي. كما صورت الأفلام والمسلسلات السورية مشاهد لحرفيين يعملون في صناعة كراسي القش، مما ساهم في نشر الوعي بهذا التراث.
تُستخدم منتجات صناعة كراسي القش أحياناً كهدايا رمزية للضيوف الأجانب أو في المناسبات الخاصة، فهي تعبر عن الأصالة والحرفية السورية. بعض الكراسي المزخرفة بعناية تُعَدُّ قطعاً فنية يفتخر أصحابها باقتنائها، وقد يتوارثونها عبر الأجيال كجزء من الإرث العائلي. هذا البعد الرمزي يضيف قيمة معنوية كبيرة لصناعة كراسي القش تفوق قيمتها المادية.
التطورات والتحديثات المعاصرة
رغم التزام معظم الحرفيين بالأساليب التقليدية في صناعة كراسي القش، إلا أن بعضهم بدأ بإدخال تحسينات وتطويرات تواكب العصر دون أن تفقد الحرفة أصالتها. فمثلاً، بدأ بعض الحرفيين باستخدام أدوات يدوية محسّنة تسهل العمل وتزيد من دقته، مع الحفاظ على الطابع اليدوي للصناعة. كما ظهرت محاولات لدمج مواد طبيعية إضافية مع القش، مثل ألياف النخيل أو الخيزران، لإضافة تنوع وقوة للمنتج.
في مجال التصميم، شهدت صناعة كراسي القش ابتكارات تجمع بين الشكل التقليدي والذوق العصري. بعض الحرفيين طوروا تصاميم جديدة للكراسي تناسب المنازل الحديثة، مع الحفاظ على تقنيات النسج التقليدية. هذا التوازن بين الأصالة والتجديد ساعد في جذب شريحة جديدة من الزبائن، خاصة من الشباب والمهتمين بالديكور المنزلي.
على صعيد التسويق، بدأ بعض الحرفيين في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لعرض منتجاتهم من صناعة كراسي القش، مما وسع نطاق انتشارها ووصولها إلى زبائن محتملين داخل سوريا وخارجها. هذا التحول الرقمي، رغم محدوديته حالياً، يمثل فرصة واعدة للحفاظ على هذه الحرفة وتطويرها. كما ظهرت مبادرات لتنظيم ورش تدريبية لتعليم صناعة كراسي القش للراغبين، سواء كهواية أو كمهنة.
الفروقات بين الصناعة السورية والإنتاج في مناطق أخرى
تتميز صناعة كراسي القش السورية عن نظيراتها في البلدان الأخرى بعدة خصائص فريدة، أولها نوعية المواد المستخدمة وطريقة معالجتها. فالحرفيون السوريون يستخدمون أنواعاً محددة من القش والحلفاء التي تنمو في البيئة السورية، ولها خصائص مميزة من حيث المتانة والمرونة. كما أن تقنيات النسج السورية لها طابع خاص يميزها عن غيرها، حيث تتضمن أنماطاً زخرفية وأساليب ضفر موروثة عبر الأجيال.
من حيث التصميم، تحمل منتجات صناعة كراسي القش السورية بصمة فنية تعكس الذوق المحلي والتأثيرات الثقافية التي مرت بها سوريا عبر العصور. فالكراسي السورية غالباً ما تكون أكثر زخرفة وتفصيلاً من الكراسي المنتجة في مناطق أخرى، حيث يهتم الحرفيون السوريون بالتفاصيل الجمالية إلى جانب الوظيفة. هذا الاهتمام بالجمالية جعل من صناعة كراسي القش السورية علامة مميزة في عالم الحرف اليدوية.
تاريخياً، كانت صناعة كراسي القش السورية مصدر إلهام لحرفيين في بلدان مجاورة، حيث انتقلت بعض التقنيات من سوريا إلى لبنان وفلسطين والأردن. لكن رغم هذا الانتشار، حافظت الصناعة السورية على خصوصيتها وأصالتها، وظلت تُعَدُّ المرجع الأساسي لهذه الحرفة في المنطقة. الحرفيون السوريون معروفون بتمسكهم بالجودة العالية والحرفية المتقنة، مما جعل منتجاتهم مطلوبة ومقدرة.
دور المرأة في الحرفة
تلعب المرأة السورية دوراً مهماً في صناعة كراسي القش، رغم أن هذا الدور قد لا يكون ظاهراً للعيان دائماً. ففي العديد من العائلات الحرفية، تساهم النساء في مراحل معينة من الإنتاج، خاصة في إعداد المواد الخام مثل تنظيف القش وفرزه وتحضيره للنسج. كما أن بعض النساء يتقن فن النسج نفسه، ويعملن في المنزل لإنتاج مقاعد الكراسي التي يتم تركيبها لاحقاً على الهياكل الخشبية.
في بعض المناطق الريفية، تُعَدُّ صناعة كراسي القش نشاطاً اقتصادياً تمارسه النساء كمصدر دخل إضافي للأسرة. فبينما يعمل الرجال في الزراعة أو حرف أخرى، تقوم النساء بنسج القش في أوقات فراغهن. هذا الدور الاقتصادي للمرأة في صناعة كراسي القش يعزز مكانتها داخل الأسرة ويساهم في تحسين الوضع المعيشي للعائلة.
بعض النساء السوريات برعن في صناعة كراسي القش لدرجة أنهن أصبحن معلمات يدربن آخرين على هذه الحرفة. في السنوات الأخيرة، ظهرت مبادرات نسائية لإحياء الحرف التقليدية، بما فيها صناعة كراسي القش، حيث تجتمع مجموعات من النساء في ورش عمل لتعلم هذه المهارة والحفاظ عليها. هذه المبادرات تُعَدُّ مهمة جداً لاستمرارية التراث الحرفي السوري.
الحفاظ على التراث ونقل المهارات للأجيال القادمة
يواجه التراث الحرفي السوري، بما فيه صناعة كراسي القش، تحدياً كبيراً في نقل المهارات إلى الأجيال الجديدة. فالشباب اليوم أقل اهتماماً بالحرف اليدوية التقليدية، ويفضلون المهن التي توفر دخلاً أسرع وأكثر استقراراً. لذلك، تبرز أهمية المبادرات والبرامج التي تهدف إلى تشجيع الشباب على تعلم صناعة كراسي القش والحرف التقليدية الأخرى.
بعض المنظمات الثقافية والجمعيات الأهلية بدأت بتنظيم دورات تدريبية في صناعة كراسي القش، تستهدف الشباب والراغبين في تعلم الحرفة. هذه الدورات تجمع بين التعليم النظري والتدريب العملي، حيث يتعلم المشاركون تاريخ الحرفة وأهميتها الثقافية، ثم ينتقلون إلى الممارسة الفعلية تحت إشراف حرفيين متمرسين. الهدف هو خلق جيل جديد من الحرفيين القادرين على الحفاظ على هذا التراث.
من جهة أخرى، هناك جهود لتوثيق صناعة كراسي القش بشكل علمي ومنهجي، من خلال تصوير فيديوهات تعليمية وكتابة أبحاث ودراسات عن هذه الحرفة. هذا التوثيق مهم للغاية لأنه يحفظ المعرفة التقليدية من الضياع، ويتيح للأجيال القادمة الوصول إليها حتى لو اختفى بعض الحرفيين الممارسين. كما أن إدراج صناعة كراسي القش ضمن برامج التعليم الحرفي والمهني يمكن أن يساهم في استمراريتها.
الخاتمة
تمثل صناعة كراسي القش جزءاً حياً من التراث السوري العريق، حرفة توارثتها الأجيال وحافظت عليها رغم التحديات والتغيرات. من البيوت الدمشقية العتيقة إلى القرى الريفية، تركت هذه الصناعة بصمتها على الحياة اليومية للسوريين، وأصبحت رمزاً للأصالة والحرفية المتقنة. إن الحفاظ على صناعة كراسي القش ليس مجرد حماية لحرفة تقليدية، بل هو حفاظ على الهوية الثقافية السورية وتاريخها العريق.
اليوم، وفي ظل التحديات المتعددة التي تواجه الحرف اليدوية، تبرز أهمية تضافر الجهود الفردية والمؤسساتية لدعم صناعة كراسي القش وضمان استمراريتها. من خلال تشجيع الشباب على تعلم هذه الحرفة، وتطوير أساليب التسويق، وتوفير الدعم المادي والمعنوي للحرفيين، يمكننا أن نضمن بقاء هذا التراث الثمين للأجيال القادمة. صناعة كراسي القش السورية ليست فقط ماضياً نفتخر به، بل هي حاضر نعيشه ومستقبل يمكننا أن نصنعه بأيدينا.
إن كل كرسي يخرج من بين أيدي الحرفي السوري يحمل معه قصة من الصبر والإتقان والإبداع، قصة تبدأ من جمع القش من الحقول وتنتهي بقطعة فنية وظيفية تجمع بين الجمال والراحة. هذه القصة هي قصة الشعب السوري نفسه، شعب عرف كيف يحول البساطة إلى فن، والمواد الطبيعية إلى إرث ثقافي. والحفاظ على صناعة كراسي القش هو حفاظ على هذه القصة، حفاظ على روح سوريا وتراثها الغني الذي يستحق أن يُصان ويُنقل للأجيال القادمة بكل فخر واعتزاز.




