التراث اللامادي

صناعة الثريات والفوانيس: كيف أصبحت تراثاً سورياً أصيلاً؟

ما الذي يميز هذه الحرفة العريقة ويجعلها رمزاً للهوية الثقافية السورية؟

تمثل صناعة الثريات والفوانيس واحدة من أعرق الحرف اليدوية التي نشأت في بلاد الشام، وتحديداً في سوريا حيث ازدهرت منذ قرون طويلة. هذا الفن الأصيل يجسد عبقرية الحرفيين السوريين في تحويل المعادن والزجاج إلى تحف فنية تضيء البيوت والمساجد والأسواق التاريخية.

المقدمة

تُعَدُّ صناعة الثريات والفوانيس من أبرز الصناعات التراثية السورية التي ارتبطت بالحضارة الإسلامية والعربية في المشرق. نشأت هذه الحرفة في المدن السورية العريقة كدمشق وحلب وحمص، حيث طور الحرفيون السوريون أساليب فريدة في تشكيل النحاس والبرونز والزجاج الملون. تعكس هذه الصناعة عمق التاريخ السوري وتجذّر المهارات الحرفية التي انتقلت عبر الأجيال، محافظة على هويتها وخصائصها المميزة. يمتد تاريخ هذه الصناعة إلى العصور الإسلامية الأولى، عندما كانت دمشق عاصمة للخلافة الأموية، حيث ازدهرت الفنون والحرف اليدوية بشكل لافت. لم تكن صناعة الثريات والفوانيس مجرد حرفة عادية، بل فناً راقياً يتطلب مهارة عالية ودقة متناهية في التنفيذ.

الجذور التاريخية السورية للصناعة

ترتبط صناعة الثريات والفوانيس بالتراث السوري ارتباطاً وثيقاً يمتد لأكثر من ألف عام. بدأت هذه الحرفة في المشاغل والورش الدمشقية خلال العصر الأموي، حيث كان الحرفيون يصنعون المشكاوات والقناديل لإنارة المساجد الكبرى مثل الجامع الأموي. تطورت هذه الصناعة تدريجياً مع مرور الزمن، واكتسبت سمات مميزة جعلتها علامة فارقة في الفنون الإسلامية السورية.

شهدت صناعة الثريات والفوانيس ذروة ازدهارها خلال العصور المملوكية والعثمانية، عندما أصبحت دمشق وحلب مراكز رئيسة لإنتاج هذه التحف الفنية. كان الحرفيون السوريون يصدّرون منتجاتهم إلى مختلف أنحاء العالم الإسلامي، من القاهرة إلى إسطنبول، ومن بغداد إلى الأندلس. تميزت المنتجات السورية بجودتها العالية ودقة صناعتها، مما جعلها مطلوبة في القصور والمساجد الكبرى.

احتفظت الأحياء القديمة في المدن السورية بورش متخصصة في هذه الصناعة، حيث توارث الأبناء المهنة عن الآباء والأجداد. سوق النحاسين في دمشق القديمة وسوق الزرب في حلب كانا ولا يزالان شاهدين على عراقة هذه الحرفة. تمثل هذه الأسواق متاحف حية تعرض مراحل صناعة الثريات والفوانيس من البداية حتى النهاية، وتجسد الروح الإبداعية للصناع السوريين الذين حافظوا على تقنيات أسلافهم.

المواد والخامات المستخدمة

الخامات الأساسية في الإنتاج

تعتمد صناعة الثريات والفوانيس على مجموعة متنوعة من المواد الخام التي تتوفر في البيئة السورية أو يتم استيرادها بعناية. تشمل المواد الرئيسة المستخدمة في هذه الصناعة التراثية:

  • النحاس الأحمر والأصفر (Copper & Brass): يُعَدُّ المادة الأساسية في صناعة الهياكل والإطارات، ويتميز بقابليته للطرق والتشكيل دون أن يتكسر
  • البرونز (Bronze): يُستخدم في القطع التي تحتاج إلى متانة أعلى ومقاومة للتآكل، وخاصة في الثريات الكبيرة المعلقة
  • الزجاج الملون (Stained Glass): يُصنع يدوياً بألوان متعددة ويُقطع بأشكال هندسية ونباتية مميزة
  • القصدير (Tin): يدخل في بعض السبائك المعدنية ويستخدم في عمليات اللحام الدقيق
  • الأحجار الكريمة وشبه الكريمة: تُضاف للزينة في القطع الفاخرة مثل العقيق والفيروز
  • الأسلاك المعدنية الرفيعة: تُستخدم في أعمال الزخرفة الدقيقة والتطريز المعدني
  • المواد العازلة: ضرورية للحماية من الحرارة وتأمين التوصيلات الكهربائية في الثريات الحديثة

تختلف جودة صناعة الثريات والفوانيس بحسب نقاء المواد المستخدمة ومصدرها. الحرفيون السوريون المتمرسون يعرفون تماماً كيفية اختيار الخامات المناسبة لكل نوع من المنتجات. النحاس السوري كان يُستخرج تاريخياً من المناطق الجبلية، بينما يُستورد حالياً بعضه من مصادر خارجية، لكن معالجته وتشكيله تبقى وفق الطرق التقليدية السورية.

التقنيات والأساليب الحرفية التقليدية

تقوم صناعة الثريات والفوانيس على مجموعة من التقنيات اليدوية المعقدة التي تتطلب سنوات من التدريب والممارسة. أولى هذه التقنيات هي الطرق والتشكيل على البارد، حيث يقوم الحرفي بطرق صفائح النحاس بمطارق خاصة على سندان محدد الشكل لتشكيل المنحنيات والقباب المميزة. هذه العملية تحتاج إلى قوة بدنية ودقة عالية لضمان تناسق الأشكال وتماثلها.

تقنية التخريم أو التفريغ (Piercing) تمثل جوهر الجمال في صناعة الثريات والفوانيس السورية. يستخدم الحرفي أدوات حادة ودقيقة لإحداث ثقوب ونقوش على سطح المعدن وفق أنماط زخرفية محددة. هذه الزخارف عادة ما تكون نباتية أو هندسية أو خطية، وتعكس الذوق الفني السوري الإسلامي الأصيل. كل ثقب يُنفذ يدوياً بصبر ومهارة، مما يجعل كل قطعة فريدة من نوعها.

عملية اللحام والتجميع تأتي بعد تشكيل القطع المختلفة، حيث يتم ربط الأجزاء المعدنية ببعضها باستخدام تقنيات اللحام التقليدية. يستخدم الحرفيون في صناعة الثريات والفوانيس لهب النار المباشر لتسخين نقاط الوصل، ثم يضيفون القصدير أو سبائك خاصة لتثبيت القطع. هذه العملية حساسة للغاية لأن أي خطأ قد يؤدي إلى تشوه القطعة بأكملها.

تقنية التطعيم بالمينا والزجاج الملون تضيف بعداً جمالياً إضافياً لصناعة الثريات والفوانيس. يقوم الحرفيون بتثبيت قطع الزجاج الملونة في الفتحات المخرمة بدقة متناهية، مستخدمين إطارات معدنية دقيقة تثبت الزجاج دون كسره. الألوان المستخدمة تعكس التراث الفني السوري، حيث يغلب الأزرق والأخضر والأحمر والذهبي، وهي ألوان ذات دلالات رمزية في الثقافة الإسلامية.

المراحل الأساسية في عملية التصنيع

خطوات الإنتاج الحرفي

تمر صناعة الثريات والفوانيس بمراحل متعددة تبدأ من التصميم وتنتهي بالتلميع النهائي. كل مرحلة تتطلب خبرة خاصة ومهارة محددة:

  1. مرحلة التصميم والرسم: يضع الحرفي تصميماً أولياً على الورق يحدد فيه أبعاد القطعة وشكلها ونمط الزخرفة المراد تنفيذها
  2. قص الصفائح المعدنية: تُقطع صفائح النحاس أو البرونز وفق المقاسات المحددة باستخدام المقصات الخاصة أو المناشير اليدوية
  3. الطرق والتشكيل: تُشكل القطع المعدنية يدوياً بالطرق المتكرر على قوالب خشبية أو معدنية لإعطائها الانحناءات المطلوبة
  4. التخريم والزخرفة: يُنفذ النقش والتفريغ بأدوات حادة ودقيقة وفق الرسومات المحددة مسبقاً
  5. اللحام والتجميع: تُربط الأجزاء المختلفة ببعضها باستخدام اللحام اليدوي لتكوين الهيكل الكامل
  6. تركيب الزجاج: تُثبت قطع الزجاج الملون في الأماكن المخصصة لها بعناية فائقة
  7. التنظيف والصقل: تُنظف القطعة من آثار اللحام والشوائب ثم تُصقل للحصول على اللمعان المطلوب
  8. التلوين والتذهيب: في بعض القطع الفاخرة، تُضاف طبقات من الطلاء الذهبي أو النحاسي للزينة
اقرأ أيضاً:  حلاوة الجبن حمصية أم حموية: الأصل والتاريخ والقول الفصل

كل مرحلة من مراحل صناعة الثريات والفوانيس تحتاج إلى وقت كافٍ ودقة عالية. القطعة الواحدة قد تستغرق أياماً أو حتى أسابيع لإنجازها، حسب حجمها ودرجة تعقيد زخارفها. هذا ما يجعل المنتجات السورية اليدوية ذات قيمة عالية مقارنة بالمنتجات الصناعية المقلدة.

المدن السورية الشهيرة بالصناعة

تتصدر دمشق قائمة المدن السورية المشهورة في صناعة الثريات والفوانيس، حيث يُعَدُّ حي النحاسين في دمشق القديمة المركز التاريخي لهذه الحرفة. في هذا الحي العريق، تصطف الورش الصغيرة على جانبي الأزقة الضيقة، وتنبعث منها أصوات الطرق على النحاس التي أصبحت جزءاً من الهوية الصوتية للمدينة القديمة. تتوارث العائلات الدمشقية هذه المهنة منذ قرون، ولكل عائلة أسلوبها المميز في الزخرفة والتشكيل.

مدينة حلب تحتل مكانة مرموقة أيضاً في صناعة الثريات والفوانيس، حيث اشتهرت بإنتاج القطع الكبيرة المخصصة للمساجد والقصور. سوق النحاسين الحلبي كان منافساً قوياً لنظيره الدمشقي، وتميزت المنتجات الحلبية بضخامة الحجم وجرأة التصاميم. الحرفيون الحلبيون طوروا أساليب خاصة في دمج النحاس مع الفضة والذهب، مما أضاف قيمة فنية واقتصادية لمنتجاتهم.

حمص وحماة ساهمتا أيضاً في إثراء صناعة الثريات والفوانيس السورية، وإن بدرجة أقل من دمشق وحلب. في حمص، تخصص بعض الحرفيين في صناعة الفوانيس الصغيرة والمتوسطة الحجم المخصصة للاستخدام المنزلي، بينما اشتهرت حماة بفوانيسها البسيطة ذات الطابع الريفي الأصيل. هذه المدن الأصغر حافظت على تقاليد محلية خاصة في هذه الصناعة، مما أضاف تنوعاً إلى التراث السوري في هذا المجال.

الزخارف والأنماط الفنية السورية

تتميز صناعة الثريات والفوانيس السورية بأنماط زخرفية فريدة تعكس الذوق الفني الإسلامي والعربي الأصيل. الزخارف النباتية تحتل مكانة بارزة، حيث تظهر أوراق العنب والأرابيسك والورود المنمنمة على أسطح النحاس بدقة متناهية. هذه الزخارف لا تُنفذ بشكل عشوائي، بل وفق قواعد هندسية وجمالية محددة توارثها الحرفيون السوريون عبر الأجيال.

الأشكال الهندسية تمثل عنصراً أساسياً آخر في صناعة الثريات والفوانيس، حيث تُستخدم النجوم الثمانية والسداسية والأشكال الدائرية والمضلعات بكثرة. هذه الأشكال الهندسية ليست مجرد زينة، بل تحمل دلالات رمزية وروحية في التراث الإسلامي. التناظر والتكرار في الزخارف يخلقان إيقاعاً بصرياً يريح العين ويبعث على التأمل، وهو ما يميز الفن الإسلامي السوري.

الخط العربي يدخل أحياناً في زخرفة صناعة الثريات والفوانيس الفاخرة، حيث تُكتب آيات قرآنية أو أدعية أو حِكَم بخطوط الثلث أو النسخ على أجزاء من الثريا أو الفانوس. هذا الدمج بين الوظيفة الإنارية والبعد الروحي يعكس عمق الثقافة السورية الإسلامية. بعض القطع النادرة تحمل توقيعات الصناع وتواريخ التصنيع مكتوبة بالخط العربي الجميل، مما يحولها إلى وثائق تاريخية.

الألوان المستخدمة في الزجاج الملون تتبع نظاماً جمالياً محدداً في صناعة الثريات والفوانيس السورية. اللون الأزرق الفيروزي يرمز إلى السماء والروحانية، الأخضر يعكس الجنة والنماء، الأحمر يدل على القوة والحيوية، بينما يضيف الذهبي والأصفر لمسة من الفخامة والنور. تركيبة الألوان في القطعة الواحدة تُدرس بعناية لتحقيق التوازن البصري والانسجام الجمالي.

أنواع الثريات والفوانيس السورية

التصنيف حسب الحجم والاستخدام

تتنوع منتجات صناعة الثريات والفوانيس السورية بحسب الحجم والوظيفة والمكان المخصص لها:

  • الثريات الكبيرة المعلقة (Grand Chandeliers): تُصنع خصيصى للمساجد الكبرى والقصور، وقد يصل قطرها إلى عدة أمتار وتحتوي على عشرات المصابيح
  • الثريات المتوسطة: تُستخدم في الصالات والمجالس الواسعة في المنازل التقليدية، وتجمع بين الوظيفة والزينة
  • الفوانيس المعلقة: تُعلق في الممرات والأروقة والشرفات، وتتميز بأشكالها المتنوعة من الأسطوانية إلى الكروية
  • الفوانيس الأرضية القائمة: توضع على الأرض أو على قواعد خاصة في زوايا الغرف والحدائق
  • المشكاوات الجدارية: تُثبت على الجدران وتستخدم للإنارة المحلية في الأماكن الضيقة
  • الفوانيس الصغيرة المحمولة: تُستخدم تقليدياً للإنارة أثناء التنقل، وأصبحت اليوم قطعاً تزيينية محبوبة
  • القناديل الدينية: مخصصة للمساجد والزوايا والمقامات، وتحمل عادة زخارف دينية وآيات قرآنية
  • الثريات الموسمية: تُصنع خصيصى لشهر رمضان والمناسبات الدينية، وتحمل طابعاً احتفالياً مميزاً

كل نوع من أنواع صناعة الثريات والفوانيس له تقنياته الخاصة ومواده المميزة. الثريات الكبيرة مثلاً تحتاج إلى هيكل معدني قوي جداً لتحمل الوزن، بينما الفوانيس الصغيرة تتطلب دقة أعلى في التفاصيل. هذا التنوع يعكس ثراء التراث السوري في هذا المجال ومرونة الحرفيين في تلبية مختلف الاحتياجات.

التحديات التي تواجه الصناعة

تواجه صناعة الثريات والفوانيس السورية في العقود الأخيرة تحديات جسيمة تهدد استمراريتها. أول هذه التحديات هو المنافسة من المنتجات الصناعية الرخيصة المستوردة من دول آسيوية، والتي تُباع بأسعار أقل بكثير من المنتجات اليدوية الأصيلة. رغم أن هذه المنتجات المقلدة تفتقر إلى الجودة والأصالة، إلا أنها تستقطب شريحة واسعة من المستهلكين الذين يبحثون عن الأسعار المنخفضة.

اقرأ أيضاً:  أكلة "حراق إصبعو": تراث دمشقي سوري أصيل

التحدي الثاني الذي يواجه صناعة الثريات والفوانيس هو قلة الإقبال على تعلم المهنة من قبل الأجيال الجديدة. الشباب السوري بات يفضل المهن الحديثة والوظائف المكتبية على الحرف اليدوية التقليدية، مما يهدد بانقطاع سلسلة نقل المعرفة والمهارات. كثير من المشاغل القديمة أُغلقت لعدم وجود من يرث المهنة، وبعض التقنيات النادرة باتت على وشك الاندثار لقلة من يتقنها.

الظروف الصعبة التي مرت بها سوريا في السنوات الأخيرة أثرت سلباً على صناعة الثريات والفوانيس، حيث تضررت كثير من الورش التقليدية في المدن القديمة. الحرفيون واجهوا صعوبات في الحصول على المواد الخام وارتفعت أسعارها بشكل كبير، مما أثر على القدرة الإنتاجية. كما تراجع الطلب المحلي على هذه المنتجات بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية، وتقلص الطلب الخارجي بسبب صعوبات التصدير.

تحدي آخر يواجه صناعة الثريات والفوانيس هو غياب الدعم المؤسسي الكافي. الحرفيون يفتقرون إلى برامج تدريبية حديثة تدمج التقنيات التقليدية مع الابتكارات المعاصرة، كما يفتقرون إلى التسويق الفعال لمنتجاتهم محلياً ودولياً. معظم المشاغل صغيرة وعائلية وتعمل بإمكانيات محدودة، دون استفادة من التكنولوجيا الحديثة التي يمكن أن تسهل بعض المراحل دون المساس بالطابع اليدوي الأصيل.

دور الحرفيين في حفظ التراث

يمثل الحرفيون السوريون حراساً أمناء على تراث صناعة الثريات والفوانيس، فهم الوحيدون الذين يمتلكون المعرفة العملية المتراكمة عبر قرون. هؤلاء الصناع لا يكتفون بإنتاج قطع جميلة، بل يحافظون على تقنيات فريدة كادت أن تضيع لولا إصرارهم على نقلها للأجيال القادمة. كل حرفي يُعَدُّ مستودعاً للمعرفة التقليدية، يحمل في ذاكرته أسرار المهنة وخباياها.

التدريب والتلمذة الصناعية يشكلان جوهر عملية نقل المعرفة في صناعة الثريات والفوانيس. الحرفي المبتدئ يقضي سنوات طويلة بجوار الأسطى (المعلم الحرفي)، يبدأ بالمهام البسيطة ثم يتدرج إلى الأعمال الأكثر تعقيداً. هذه العلاقة بين المعلم والمتدرب لا تقتصر على نقل المهارات التقنية، بل تشمل أيضاً القيم المهنية كالإتقان والأمانة والصبر.

بعض الحرفيين المتميزين في صناعة الثريات والفوانيس تحولوا إلى فنانين معترف بهم محلياً ودولياً. بعضهم شارك في معارض دولية وورش عمل عالمية، حيث قدموا الفن السوري الأصيل للعالم. هؤلاء الحرفيون يجمعون بين المهارة التقليدية والرؤية الفنية المعاصرة، مما يمكّنهم من إنتاج قطع تحترم التراث وتواكب الأذواق الحديثة في آن واحد.

المبادرات الفردية لبعض الحرفيين في توثيق وتعليم صناعة الثريات والفوانيس تستحق التقدير. بعضهم بدأ بتوثيق التقنيات القديمة بالصور والفيديو، وآخرون افتتحوا ورشات تدريبية لتعليم الشباب المهتمين. هذه الجهود الفردية، رغم محدوديتها، تساهم في الحفاظ على هذا التراث السوري الثمين من الضياع، وتخلق جسوراً بين الأجيال تضمن استمرارية الحرفة.

الأهمية الاقتصادية والثقافية

تمتلك صناعة الثريات والفوانيس أهمية اقتصادية كبيرة للاقتصاد السوري، رغم أنها صناعة صغيرة مقارنة بالقطاعات الكبرى. هذه الصناعة توفر مصدر رزق لآلاف الأسر السورية، من الحرفيين أنفسهم إلى تجار المواد الخام والوسطاء والبائعين. كما تساهم في جذب السياحة الثقافية، حيث يزور السياح الأسواق التقليدية لمشاهدة الحرفيين أثناء العمل وشراء المنتجات الأصيلة كتذكارات.

القيمة المضافة في صناعة الثريات والفوانيس عالية جداً، فالمواد الخام البسيطة تتحول بفضل المهارة الحرفية إلى تحف فنية غالية الثمن. هذا يجعل الصناعة مربحة للحرفيين المهرة، ويساهم في تحسين دخلهم المعيشي. المنتجات السورية الأصيلة تُصدَّر إلى دول عربية وأوروبية، حيث تلقى رواجاً كبيراً بين هواة الفن الإسلامي والمشرقي، مما يدر عملات صعبة على البلاد.

من الناحية الثقافية، تُعَدُّ صناعة الثريات والفوانيس رمزاً من رموز الهوية السورية الأصيلة. هذه الصناعة تحكي قصة حضارة عريقة ومهارة فنية متفردة، وتربط السوريين بتاريخهم وتراثهم. الثريات والفوانيس السورية موجودة في المتاحف العالمية كشواهد على عظمة الفن الإسلامي السوري، وتُدرس في الجامعات كنماذج على التميز الحرفي.

صناعة الثريات والفوانيس تساهم أيضاً في تعزيز الذاكرة الجماعية السورية والحفاظ على التقاليد الاجتماعية. الفوانيس الرمضانية على سبيل المثال أصبحت جزءاً لا يتجزأ من احتفالات السوريين بالشهر الفضيل، وترتبط بذكريات الطفولة والأجواء الروحانية. هذا البعد الاجتماعي والعاطفي يضيف قيمة معنوية لهذه الصناعة تتجاوز بكثير قيمتها المادية.

جهود الحفاظ والتطوير

تبذل جهات مختلفة محاولات للحفاظ على صناعة الثريات والفوانيس السورية وتطويرها. بعض المنظمات غير الحكومية أطلقت مشاريع لدعم الحرفيين وتوفير المواد الخام بأسعار مدعومة، كما نظمت دورات تدريبية لنقل المهارات للشباب المهتمين. هذه المبادرات، وإن كانت محدودة النطاق، تساهم في إبقاء شعلة الصناعة متقدة.

بعض الحرفيين المبتكرين في صناعة الثريات والفوانيس بدأوا بدمج التصاميم التقليدية مع الأذواق العصرية. طوروا منتجات تجمع بين الأصالة والحداثة، كالثريات ذات التصميم العصري مع الزخارف التقليدية، أو الفوانيس الصغيرة التي تعمل بالبطاريات بدلاً من الشموع. هذا الابتكار يجذب شرائح جديدة من المستهلكين دون التخلي عن الجوهر التقليدي للحرفة.

اقرأ أيضاً:  تراث سوريا اللامادي: كنز ثقافي يستحق الحفظ

التوثيق الأكاديمي لصناعة الثريات والفوانيس بدأ يأخذ مكانه في الجامعات السورية ومراكز البحث. بعض الباحثين أنجزوا دراسات قيمة عن تاريخ هذه الصناعة وتقنياتها وأهميتها الثقافية، مما يساهم في رفع الوعي بقيمة هذا التراث. هذه الأبحاث تشكل مرجعاً مهماً للأجيال القادمة وتساعد في وضع استراتيجيات للحفاظ على الصناعة.

المعارض الدولية والمشاركة في الفعاليات الثقافية العالمية توفر منصة مهمة للترويج لصناعة الثريات والفوانيس السورية. عندما يشاهد العالم هذه التحف الفنية ويتعرف على القصة وراء صناعتها، يزداد التقدير للحرفة والحرفيين. هذا التعريف الدولي يمكن أن يفتح أسواقاً جديدة ويجذب استثمارات لدعم هذا القطاع التراثي الحيوي.

التكامل مع الفنون السورية الأخرى

تتكامل صناعة الثريات والفوانيس مع فنون سورية تقليدية أخرى لتشكل منظومة ثقافية متماسكة. صناعة الزجاج الملون السورية توفر المادة الأساسية للفوانيس، والعلاقة بين صناع النحاس والزجاج علاقة تكاملية تاريخية. الزجاج الدمشقي بألوانه المميزة يُعَدُّ عنصراً لا غنى عنه في إنتاج القطع الفاخرة، وكلتا الصناعتين تشتركان في نفس الأسواق التقليدية.

فن الخط العربي السوري يدخل في تزيين صناعة الثريات والفوانيس الراقية، حيث يتعاون خطاطون مهرة مع الحرفيين لإنتاج قطع تجمع الإنارة والفن الخطي. بعض الثريات المخصصة للمساجد تحمل آيات كريمة منفذة بخط الثلث الجميل، مما يضيف بعداً روحانياً وجمالياً. هذا التعاون يُظهر كيف تتكامل الفنون السورية لخلق منتجات فريدة عالمياً.

صناعة الموزاييك والأرابيسك الخشبي السورية تشترك مع صناعة الثريات والفوانيس في نفس الأنماط الزخرفية والقيم الجمالية. البيوت السورية التقليدية كانت تجمع بين هذه العناصر جميعاً: الثريات النحاسية المعلقة من الأسقف المزخرفة، والفوانيس على الجدران الموزاييكية، والأرضيات المبلطة بالحجر المزخرف. هذا التناغم يعكس وحدة الرؤية الجمالية في التراث السوري.

الرمزية الثقافية والدينية

تحمل صناعة الثريات والفوانيس في التراث السوري رمزية عميقة تتجاوز الوظيفة النفعية. النور الذي تنشره هذه القطع يرمز إلى المعرفة والهداية والإيمان في الثقافة الإسلامية. الآية القرآنية “الله نور السماوات والأرض” غالباً ما تُحفر على القطع المخصصة للمساجد، مما يؤكد هذا البعد الروحي. الفانوس أصبح رمزاً للشهر الفضيل والروحانية في كل العالم الإسلامي.

الثريات المعلقة في المساجد الكبرى تحمل أيضاً دلالة اجتماعية، فكانت غالباً ما تُهدى من الميسورين كصدقة جارية. بعض الثريات التاريخية تحمل أسماء المتبرعين وتواريخ الوقف، مما يحولها إلى وثائق تاريخية. هذا التقليد في صناعة الثريات والفوانيس يعكس قيم العطاء والبذل في المجتمع السوري التقليدي.

الاستخدام الموسمي للفوانيس خلال شهر رمضان يحمل بعداً اجتماعياً مهماً في صناعة الثريات والفوانيس. الأطفال السوريون اعتادوا تعليق الفوانيس واللعب بها خلال الشهر الفضيل، مما يخلق ذكريات جماعية ترتبط بالفرح والروحانية. هذا الاستخدام حوّل الفانوس من مجرد أداة إنارة إلى رمز ثقافي يوحد المجتمع ويعزز الهوية الجماعية.

التصدير والانتشار العالمي

نجحت صناعة الثريات والفوانيس السورية في الوصول إلى أسواق عالمية بفضل جودتها العالية وتفردها الفني. الدول العربية كانت ولا تزال السوق الأهم للمنتجات السورية، حيث تُقدَّر الثريات السورية في دول الخليج ومصر والمغرب العربي. المساجد الكبرى في كثير من الدول العربية تزينها ثريات سورية الصنع، مما يعكس الثقة في جودة هذه المنتجات.

الأسواق الأوروبية والأمريكية بدأت تكتشف جمال صناعة الثريات والفوانيس السورية في العقود الأخيرة. هواة الفن الإسلامي والمصممون الداخليون في الغرب يبحثون عن القطع السورية الأصيلة لإضافة لمسة شرقية أصيلة للمساحات الداخلية. بعض المتاجر المتخصصة في أوروبا وأمريكا تستورد حصرياً من الحرفيين السوريين، مما يوفر سوقاً ثابتة ومربحة.

التحديات التي يواجهها التصدير في صناعة الثريات والفوانيس تشمل المنافسة من الدول الأخرى والصعوبات اللوجستية. بعض الدول بدأت تقلد الأساليب السورية بتكاليف أقل، مما يهدد حصة المنتجات السورية في الأسواق العالمية. لكن القطع السورية الأصيلة تبقى متفوقة من حيث الجودة والإتقان، مما يمنحها ميزة تنافسية عند المستهلكين الذين يقدرون الأصالة.

الخاتمة

تمثل صناعة الثريات والفوانيس كنزاً ثقافياً وحضارياً سورياً أصيلاً يستحق كل الجهود للحفاظ عليه وتطويره. هذه الصناعة التي نشأت في المدن السورية العريقة منذ قرون طويلة ليست مجرد حرفة يدوية، بل فن راقٍ وتراث ثمين يجسد عبقرية الإنسان السوري وإبداعه. من المشاغل الصغيرة في أحياء دمشق القديمة وحلب الأثرية، خرجت تحف فنية أنارت المساجد والبيوت وزينت القصور عبر العالم الإسلامي.

رغم التحديات الكبيرة التي تواجهها صناعة الثريات والفوانيس في العصر الحديث، من المنافسة الصناعية إلى قلة الإقبال على تعلم المهنة، إلا أن هذه الحرفة لا تزال تقاوم الاندثار بفضل إصرار الحرفيين وتمسكهم بتراثهم. كل ثريا تُصنع اليوم وكل فانوس يُشكّل يدوياً يمثل انتصاراً للإرادة الإنسانية والهوية الثقافية على التحديات. المحافظة على هذا الإرث السوري الأصيل مسؤولية جماعية تتطلب تضافر الجهود الرسمية والشعبية لضمان نقله للأجيال القادمة كاملاً نابضاً بالحياة.

صناعة الثريات والفوانيس السورية ليست مجرد ماضٍ عريق، بل حاضر حي ومستقبل واعد إذا توفرت الإرادة والدعم المناسبان. بالجمع بين الأصالة والابتكار، بين الحفاظ على التقنيات التقليدية وتطوير أساليب التسويق والانتشار، يمكن لهذه الصناعة أن تستعيد مكانتها وتزدهر من جديد، حاملة معها رسالة الثقافة السورية العريقة إلى العالم أجمع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى