مدينة سيروس الأثرية: مركز الحضارات والتحولات العسكرية في العصور القديمة
تمثل مدينة سيروس، المعروفة أيضاً نبي هوري، واحدة من أبرز المواقع التاريخية والأثرية في الشمال السوري. تقع المدينة على ضفة نهر الصابون – صويو، وتمتاز بموقعها الإستراتيجي بين مدينتي أنطاكيا وزوغما على الفرات. تأسست سيروس خلال الفترة الهلنستية، ولعبت دوراً محورياً في الحملات العسكرية والسياسية عبر العصور المختلفة. لم تكن سيروس مجرد موقع عسكري، بل كانت أيضاً مركزاً دينياً وثقافياً هاماً، حيث امتدت نفوذها وتأثيرها من العصور السلوقية مروراً بالعصر الروماني والبيزنطي. واليوم، تُعتبر سيروس شاهداً حياً على التاريخ الغني والتحولات التي شهدتها المنطقة، من خلال معالمها الأثرية الباقية مثل المسرح الكبير والأسوار المتينة التي تعكس براعة الهندسة المعمارية القديمة. انضم إلينا في رحلة استكشافية لفهم أعماق هذه المدينة العريقة واكتشاف أسرارها المدفونة بين ثنايا الزمن.
تأسيس مدينة سيروس وموقعها
يقع موقع نبي هوري أو سيروس (قروش) على بعد 70 كم، إلى الشمال الشرقي من مدينة حلب، على الطريق الواصل بين مدينتي أنطاكيا وزوغما على الفرات. تم إنشاء المدينة على ضفة نهر الصابون – صويو، أحد فروع نهر عفرين، وتمتاز هذه المنطقة بهضابها وأراضيها الصالحة للزراعة، لا سيما زراعة الزيتون والكرمة.
تعد مدينة سيروس من أولى المدن السلوقية التي شيدت في سورية، وسيروس هي تسمية لمدينة مقدونية، أما تسمية قورش فقد وردت في نصوص المؤرخ البيزنطي بروكوبيوس في قصة خيالية حول هذه المدينة، وينسب تأسيسها على الفترة ما قبل الهلنستية، وبرأي المؤرخين المعاصرين فإن المدينة لم تحمل أبداً تسمية سلالية قبل العصر الهلنستي، وأن تسمية قورش ليس إلا تشابه كتابي.
الدور العسكري والإستراتيجي لمدينة سيروس
تمتاز سيروس بموقع إستراتيجي هام، إذ تقع على الطريق الواصل بين شمال الرافدين وأنطاكية، وكانت قاعدة لانطلاق الحملات العسكرية لدرء خطر الأرمن والبارثيين خلال العصر الهلنستي.
تمتعت المدينة في القرن الثاني قبل الميلاد خاصة بأهمية عسكرية بسبب الحملات العسكرية التي شنت خلاله كالحرب التي قادها أنطوخوس الرابع ضد أرمينية في سنة 164 ق.م ، وكذلك إعادة غزو مقاطعة كوماجين من قبل الملك السلوقي ديمتريوس الأول حوالي سنة 160 ق.م. والصراع الذي نشب بين ألكسندر بالاس ويطليموس في سنة 145 ق.م، والحملة الكبرى لأنطيوخوس السابع ضد البارثيين سنة 130 ق.م كل هذه الأحداث جعلت من هذه المدينة مركزاً لتجمع الفرق العسكرية خاصة وأن الإستراتيجية العسكرية للدولة السلوقية اعتمدت على تقوية المدن والحاميات العسكرية. ولكن مع خسارة كوماجين في الشمال لصالح ميتريدات في بداية القرن الأول قبل الميلاد، تحولت سيروس إلى مدينة حدودية، وتراجعت أهميتها إستراتيجياً.
احتل البارثيون المدينة خلال سنتي 88 – 87 ق.م، بعد أن هجرها أغلبية سكانها المقدونيين، لذلك لم يتحدث عنها الجغرافي إسترابون بسبب فقدانها لأهميتها كمدينة إستراتيجية. أما مسكوكات المدينة العائدة إلى عهد إسكندر بالاس، فإنها تساعدنا على التعرف على الحياة الدينية وأشكال العبادة الموجودة فيها، نقشت عليها صور الآلهة مثل زيوس وأثينا.
الاكتشافات الأثرية والتطور التاريخي
بعد الاحتلال الروماني لسورية بقيادة بومبيوس في سنة 64 ق.م، دخلت مدينة سيروس تحت السيطرة الرومانية، وأصبحت جزءاً من الولاية السورية، ونملك الكثير من المعلومات عن هذه المدينة خلال العصر والعصور المتلاحقة.
تمركزت فيها الفرقة العسكرية العاشرة في بدايات العصر الروماني، وصارت قاعدة لانطلاق العمليات العسكرية ضد أرمينية والبارثيين، وأصبحت مركزاً إستراتيجياً هاماً نحو أنطاكية وأفامية في الشمال السوري.
احتلت المدينة مكانة هامة خلال عهد الأسرة السيفيرية 193 – 235 م، حيث كانت واحدة من مراكز سك النقود، خلال هذه الفترة تحول الطريق الشمالي إلى الجنوب، وأصبح يمر من مدينة حلب ففقدت مدينة سيروس على إثره أهميتها الإستراتيجية.
استمر ذلك حتى عهد الإمبراطور البيزنطي جوستنيانوس (527 – 565 م) الذي أعاد لها أهميتها ودورها الإستراتيجي، وأصبحت مكاناً للحج، شهدت خلاله الازدهار فأصبح اسمها آجيوبوليس أو المدينة المقدسة.
اكتشف الموقع خلال المسح الثري سنة 1952، حيث أدت الأسبار الاختبارية إلى القيام بأعمال تنقيب منهجية، بدءاً من سنة 1964 حتى سنة 1980 من قبل فريق أثري من جامعة ستراسبورغ ـ فرنسا برئاسة (إدمون فريزولس) Ed.FREZOULSوركزت حفرياته الأثرية على المسرح والمدافن والجسور المؤدية إلى المدينة وشبكة الطرقات الداخلية إضافة إلى الأسوار.
تمتد المدينة إلى الشرق والشمال الشرقي والجنوب الشرقي من الأكروبول على منطقة هضبية، وتتميز طبيعة الأرض عند البابين الشمالي والجنوبي بأنها شبه مستوية، بينما تنحدر بقوة باتجاه النهر في جهة الشرق.
حافظت المدينة على العديد من عناصرها المعمارية الواضحة حتى الآن، مما ساعدنا على فهم شكل المدينة خلال العصور المتلاحقة. إذ أجريت العديد من الأسبار الأثرية في عدة نقاط من أسوارها، وزودتنا بأدلة واضحة عن تاريخ بنائها خلال العصرين الهلنستي والبيزنطي. كما بينت األسبار أن هذه الأسوار غير منتظمة الشكل تتماشى مع طبوغرافية الموقع ذات الطبيعة الهضبية، وقد تم تدعيمها بمجموعة من الأبراج القوية العائدة إلى القرن السادس الميلادي خلال عهد الامبراطور جوستنيانوس. ويبدو أنها بنيت على أساسات أقدم تعود إلى العصر الهلنستي، كما بينت ذلك نصوص المؤرخين القدامى المتوافقة مع نتائج الدراسات الأثرية، ولا بد من الإشارة إلى أن أسوار المدينة قد أُهملت وتعرضت للتخريب بسبب فقدانها لأهميتها العسكرية خلال العصر الروماني، واستمر ذلك حتى العصر البيزنطي. لذلك فإن مخطط المدينة خلال العصر البيزنطي ربما جاء مطابقاً مع المخطط العائد إلى العصر الهلنستي، وقد بدأت دراسات أثرية جديدة في الموقع للتأكد من طبيعة تطور هذه السوار.
أما التنظيم الداخلي للمدينة فقد تم تخطيطه وفق نظام شبكة ترابعية مستطيلة الشكل، يخترقها الطريق المستقيم الأساسي الذي يؤدي إلى مقاطعة كوماجين في الشمال، وينفتح هذان الطريقان المتقاطعان بأربع بوابات رئيسة.
تضم المدينة منشآت هامة كالمعبد الروماني الواقع جنوب المسرح، ومجموعة من البيوت العائدة إلى العصر الروماني، كما توجد ثلاثة جسور تعود إلى نهاية العصر الروماني أو بداية العصر البيزنطي، لا يزال جسران منها قائمين أحداهما على نهر عفرين والآخر على نهر صابون – صويو، أما الجسر الثالث فقد كان يربط المدينة بالطريق المؤدي إلى مقاطعة كوماجين وهو مهدم.
وبالنسبة إلى مسرح سيروس فيعد ثاني أكبر مسرح في سورية بعد أفامية، بلغ قطره 115م، يرتكز المسرح على المنحدر لهضبة الأكروبول التي تنحدر بشكل قاس، يتألف من جزأين، استند الجزء العلوي الذي يشمل على مقاعد الجلوي للجمهور على السفح أما الجزء السفلي فقد تم بناؤه بعمارة حجرية، ويضم مجموعة من الغرف بالإضافة إلى الأبواب الرئيسة للدخول وخشبة المسرح. يشغل هذا المسرح مكاناً مركزياً في المدينة، حيث يقع في منتصف المسافة بين الأكروبول ونهر صابون من جهة الباب الشمالي والجنوبي من جهة أخرى.
خاتمة
تعد مدينة سيروس شاهداً على تاريخ حافل بالتحولات والأحداث التي شكلت وجه الشمال السوري عبر العصور. من عصر الإغريق الهلنستيين إلى هيمنة الرومان والبيزنطيين، كانت سيروس دائماً في قلب الصراعات والتحولات السياسية والعسكرية. اليوم، بفضل الاكتشافات الأثرية والدراسات المعمقة، يمكننا استرجاع صورة واضحة عن الحياة في هذه المدينة العريقة وفهم الأهمية الإستراتيجية والدينية التي احتلتها على مر الزمان. تعد زيارة سيروس رحلة في أعماق التاريخ، تقدم فرصة فريدة لاستكشاف التراث الثقافي الغني للمنطقة والاستمتاع بجمال الهندسة المعمارية القديمة. إنها تذكرة مستمرة بعظمة الحضارات التي ازدهرت في هذه الأرض وكيفية تأثيرها على مسار التاريخ. سيروس ليست مجرد موقع أثري، بل هي نافذة على ماضٍ مجيد لا يزال يروي لنا قصصه من خلال أطلاله العريقة ومعالمه الباقية.
الأسئلة الشائعة حول مدينة سيروس الأثرية
1. ما هو موقع مدينة سيروس الجغرافي؟
-تقع مدينة سيروس، المعروفة أيضاً بنبي هوري، على بعد 70 كم شمال شرق مدينة حلب، على الطريق الواصل بين مدينتي أنطاكيا وزوغما على الفرات.
2. ما هي الأهمية الإستراتيجية لمدينة سيروس في العصور القديمة؟
-لعبت سيروس دوراً محورياً كقاعدة لانطلاق الحملات العسكرية لدرء خطر الأرمن والبارثيين خلال العصر الهلنستي، وكانت موقعاً إستراتيجياً بين شمال الرافدين وأنطاكية.
3. ما هي أبرز الأحداث العسكرية التي شهدتها سيروس في القرن الثاني قبل الميلاد؟
-شهدت سيروس الحرب التي قادها أنطوخوس الرابع ضد أرمينية سنة 164 ق.م، وغزو مقاطعة كوماجين من قبل ديمتريوس الأول حوالي سنة 160 ق.م، والصراع بين ألكسندر بالاس ويطليموس سنة 145 ق.م، وحملة أنطيوخوس السابع ضد البارثيين سنة 130 ق.م.
4. كيف أثرت الحملات العسكرية على تطور مدينة سيروس؟
-جعلت الحملات العسكرية من سيروس مركزاً لتجمع الفرق العسكرية، لكنها تراجعت إلى مدينة حدودية بعد خسارة كوماجين لصالح ميتريدات في بداية القرن الأول قبل الميلاد.
5. ما هو دور الرومان في تاريخ مدينة سيروس؟
-بعد احتلال الرومان لسوريا بقيادة بومبيوس سنة 64 ق.م، دخلت سيروس تحت السيطرة الرومانية، وتمركزت فيها الفرقة العسكرية العاشرة وصارت قاعدة لانطلاق العمليات العسكرية ضد أرمينية والبارثيين.
6. ما هي أبرز الاكتشافات الأثرية في مدينة سيروس؟
-أبرز الاكتشافات تشمل المسرح الكبير، الأسوار، المدافن، والجسور المؤدية إلى المدينة وشبكة الطرقات الداخلية. بدأ التنقيب المنهجي في الموقع منذ سنة 1964 حتى 1980.
7. ما هي مكونات التنظيم الداخلي لمدينة سيروس؟
-تم تخطيط المدينة وفق نظام شبكة ترابعية مستطيلة الشكل، تتخللها طرقات رئيسة تؤدي إلى مقاطعة كوماجين في الشمال، مع أربع بوابات رئيسة.
8. ما هو المسرح الكبير في سيروس وما أهميته؟
-يعد المسرح الكبير في سيروس ثاني أكبر مسرح في سوريا بعد أفامية، وبلغ قطره 115م، ويقع في موقع مركزي بين الأكروبول ونهر صابون، مما يعكس أهمية المدينة الثقافية والترفيهية.
9. كيف حافظت سيروس على أهميتها عبر العصور المختلفة؟
-استمرت أهمية سيروس عبر العصور الهلنستية، الرومانية، والبيزنطية، حيث أعاد الإمبراطور البيزنطي جوستنيانوس دورها الإستراتيجي والديني وأصبحت مكاناً للحج.
10. ما هي أبرز العناصر المعمارية التي ما زالت قائمة في مدينة سيروس؟
-من العناصر المعمارية البارزة التي ما زالت قائمة هي الأسوار، الأبراج القوية، المعبد الروماني، الجسور، والمسرح الكبير، مما يعكس غنى وتنوع التراث التاريخي للمدينة.