التراث المادي

الجامع الأعلى الكبير في مدينة حماة: تاريخ ومعمار

مدينة حماة، التي تقع في وسط سوريا، تُعَدُّ واحدة من أقدم المدن المأهولة في التاريخ. يعود تاريخها إلى آلاف السنين (حوالي 8000 سنة قبل الميلاد)، إذ تعاقبت عليها حضارات متعددة تركت بصماتها الثقافية والمعمارية والسياسية. تبوأت حماة مكانةً هامة بسبب موقعها الجغرافي المحوري الذي جعلها نقطة التقاء بين الشمال والجنوب والشرق والغرب في سوريا.

شهدت المدينة العديد من الأحداث التاريخية الحاسمة، بدءاً من العهد الآشوري، حيث دُمِّرت وأعيد بناؤها عدة مرات. خلال فترة الحكم الفارسي ومن ثم اليوناني، حافظت حماة على مكانتها كمركز حضاري، اقتصادي، وتجاري بارز. ومع ظهور الإمبراطورية الرومانية والبيزنطية، أصبحت المدينة مركزًا دينيًا، يحتضن معابد وكنائس مهمة.

في العهد الإسلامي، اكتسبت حماة أهمية دينية كبيرة، حيث ازدهرت تحت حكم الدولتين الأموية والعباسية. كانت المدينة تُعَدُّ ملتقًى للتجار والحجاج، وأسهم الجامع الأعلى الكبير في تعزيز هذه المكانة من خلال دوره الاجتماعي والديني البارز.

ومع قدوم العصور الوسطى، واجهت المدينة محطات تاريخية متميزة من السيطرة الصليبية ثم المملوكية، وعُرفت بتشييدها العديد من المنشآت الدفاعية، كالقلاع والأسوار، التي حصنت المدينة ضد الغزاة. وقد شهدت فترة الحكم العثماني نهضة عمرانية وتراثية ما زالت قائمة آثارها حتى اليوم.

اليوم، تحتفظ مدينة حماة بثرائها الثقافي والديني، وتستمر في جذب الزوار من مختلف أنحاء العالم باحتضانها لمعالم تاريخية وأثرية، من أبرزها الجامع الأعلى الكبير. إن التاريخ العريق لمدينة حماة يعكس عمقها الحضاري وتأثيرها المستمر في تعريف الهوية السورية.

تأسيس الجامع الأعلى الكبير

يقع الجامع الأعلى الكبير في مدينة حماة في حي باب القِبلي غربي القلعة، وهو أحد أقدم المعالم الأثرية في المدينة. ويرجع تاريخ الموقع إلى القرن الثالث الميلادي على الأقل، حيث تشير الأدلة المعمارية على المبنى إلى بناء معبد روماني هناك. وخلال الفترة البيزنطية، تم تحويل هذا المعبد إلى كنيسة مسيحية وتعديله وفقاً لذلك. ويشير نقش يعود تاريخه إلى عام 595 ميلادي وُجِد على الجدران إلى أن تحويل المعبد إلى كنيسة حدث في هذا الوقت، أو أنه كان هناك على الأقل تجديد كبير. وبعد الفتح الإسلامي لسورية، تم تحويل الكنيسة البيزنطية إلى مسجد. حدث هذا التحويل في عامي 636-637 م/ 15 هـ وفقاً للمصادر الأدبية، ولكن من غير الواضح ما إذا كانت أي تغييرات هيكلية في الكنيسة قد حدثت في هذا الوقت. خلال الفترة الإسلامية، تم تجديد المسجد عدة مرات، مع إضافة فناء فيه، وأضيفت مئذنتان لاحقاً، الأولى في 1134-1135 م /529 هـ والثانية في 1422 م /825 هـ. تشير النقوش الموجودة في قاعة الصلاة إلى أن التجديد حدث في 1397-1398 م / 800 هـ.

لم يخلُ تاريخ الجامع من الكوارث الطبيعية والبشرية، إذ تعرض للخراب والتدمير جزئياً في مناسبات عدة، أبرزها خلال زلزال عام 1157 ميلادي. ومع ذلك، كان الجامع الأعلى الكبير دائماً ما يلقى الدعم الكافي لإعادة بنائه وترميمه من خلال جهود الجهات المحلية والحكام المختلفين الذين تعاقبوا على حكم المدينة.

في عام 1982 دُمر المسجد في قصف لقمع انتفاضة حدثت هناك ضد حكم حافظ الأسد. ثم أعادت دائرة الآثار السورية بناء المسجد بعد ذلك وفقاً لتصميمه التاريخي.

اقرأ أيضاً:  حماة: جوهرة التاريخ السوري وقلب الحياة الثقافية

قبل تدمير المبنى في عام 1982، كانت الجدران الخارجية لقاعة الصلاة في الطرف الجنوبي للمبنى تحمل أدلة كافية على ماضي المبنى قبل الإسلام. كان الجدار الشرقي يحتوي على ثلاثة أبواب مملوءة بالإضافة إلى أجزاء من قباب وكورنيش. وقد تم تفسير هذا على أنه المدخل المملوء للمعبد الروماني الأصلي، والذي يرجع تاريخه على الأرجح إلى القرن الثالث الميلادي بناءً على أسس أسلوبية. يحتوي الجدار الغربي لقاعة الصلاة على مدخل آخر مملوء: هذه المرة باب كبير في الوسط محاط ببابين أصغر حجماً نحو الجانبين. هذه هي بقايا الواجهة الغربية (الرئيسة) للكنيسة البيزنطية التي بنيت في المعبد.

تصميم المسجد

يتكون المسجد من فناء كبير محاط برواق مقبب يجاوره من الجانب الجنوبي قاعة صلاة ومن الجانب الغربي عدة غرف جانبية، بما في ذلك ضريح مقبب. يقع المدخل الرئيس في الجانب الشمالي من المبنى. وهو بوابة مقوسة بسيطة تؤدي عبر ممر مقبب إلى الجانب الشمالي من الفناء. الفناء عبارة عن مساحة مستطيلة يكون محورها الشمالي الجنوبي أطول من محورها الشرقي الغربي، مرصوفة بالحجارة السوداء والبيضاء المرصعة بأنماط هندسية. يتضمن الفناء نافورة مربعة في وسطها وخزانة مثمنة الشكل مقببة مرتفعة على ثمانية أعمدة كلاسيكية، تقع على طول الجانب الغربي.

تتكون قاعة الصلاة من كتلة مستطيلة الشكل مساحتها 31.45 × 20.90 متراً، ويقسمها صفان من أربعة أعمدة إلى خمسة أروقة عمودية على القبلة، يبلغ طول كل منها ثلاثة أروقة، وتكون الأروقة الأبعد إلى الجانب أضيق من الثلاثة في الوسط. وكانت واجهة فناء قاعة الصلاة تحتوي في السابق على خمسة مداخل مقوسة تتوافق مع هذه الأروقة الخمسة، ولكن اليوم لم يتبق سوى الثلاثة المركزية، وتم تحويل اثنين على الجانبين إلى نوافذ. وتغطي القباب الأروقة الثلاثة للرواق المركزي والأروقة المركزية للأروقة المجاورة.

الخزنة التي بناها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في المسجد

تؤدي الفسحة الجنوبية في الرواق الذي يحد الجانب الغربي من الفناء إلى ضريح مقبب يحتوي على قبور اثنين من الحكام الأيوبيين: الملك المنصور (حكم 1244-1284/642-683 هـ) والملك المظفر محمود (توفي 1299 م/698 هـ). كان الضريح عبارة عن غرفة مربعة بها محراب على جدارها الجنوبي.

يحتوي المسجد على مئذنتين. ترتفع مئذنة مربعة مصنوعة من الحجر الأسود والأبيض مرصعة بأنماط هندسية مذهلة بصرياً من الزاوية الجنوبية الشرقية لقاعة الصلاة. ترتفع المئذنة الثانية من الجدار الشمالي بجوار المدخل الرئيسي، وترتكز على قاعدة مربعة ذات عمود مثمن. ويرجع تاريخها إلى عام 1422 م/825 هـ.

تطور الجامع عبر التاريخ وأصبح شاهداً على أحداث عديدة مرت بها المدينة. وقد جرى توسيعه وتجديده في مناسبات عدة، كان أبرزها في عهد الأتابكة الذين حكموا المنطقة في القرن الثاني عشر الميلادي. خلال هذه الفترة، أضيفت العديد من العناصر المعمارية التي تجمع بين الطرازين الأموي والأتابكي، مما جعل من الجامع معلماً هندسياً جامعاً للعديد من الفترات التاريخية.

التأثير الثقافي والديني للجامع

يمثل الجامع الأعلى الكبير في مدينة حماة محورًا مهمًا للحياة الثقافية والدينية في المدينة. فمن خلال الأنشطة التي تقام داخله، يسهم الجامع في تعزيز الروابط الاجتماعية والدينية بين أفراد المجتمع. الصلوات الجماعية هي أحد أهم الأنشطة التي تجمع الناس من مختلف الأعمار والخلفيات الاجتماعية في جو من الروحانية والتآزر. يتيح هذا اللقاء اليومي فرصة للأفراد للتواصل وتبادل الأفكار، مما يعزز من التواصل الاجتماعي ويسهم في بناء مجتمع متماسك.

إلى جانب الصلوات، يلعب الجامع دورًا محوريًا كبؤرة للعلم والمعرفة من خلال الدروس الدينية التي تُعقد بانتظام. هذه الدروس لا تقف عند شرح النصوص الدينية فقط، بل تمتد لتشمل مناقشات حول القيم الإنسانية والأخلاقية التي تشكل جزءًا لا يتجزأ من النسيج الثقافي والديني للمجتمع. حضور هذه الدروس يسهم في تعزيز الفهم العميق للديانة الإسلامية وقيمها، ويساعد على تنشئة جيل مؤهل لقيادة المجتمع بأسلوب يتسم بالأمانة والحكمة.

اقرأ أيضاً:  السيف الدمشقي: تحفة صنعتها الأيدي الماهرة

لا يقتصر دور الجامع على النواحي الدينية فحسب، بل يمتد أيضًا إلى المناسبات الاجتماعية التي تعزز من أهمية المجتمع المحلي. المناسبات الاحتفالية، مثل الأعياد والاحتفالات الوطنية، تشهد توافد الناس إلى الجامع للاحتفاء بروح الجماعة والهوية المشتركة. تقديم الدعم الاجتماعي للفئات المحتاجة يُعد من بين الأنشطة الاجتماعية الأخرى التي تُكسب الجامع مكانة خاصة داخل القلوب.

من خلال هذه الأنشطة المتنوعة، يُظهر الجامع الأعلى الكبير في حماة كيف يمكن للمؤسسات الدينية أن تكون قوى إيجابية تعمل على تحسين وتطوير المجتمع، تعزيز القيم الثقافية، والدفع نحو حياة أفضل للأجيال الحالية والمستقبلية.

صورة قديمة للمسجد

الجامع في الأدب والفن السوري

شكل الجامع الأعلى الكبير في مدينة حماة مصدر إلهام للعديد من الأدباء والفنانين السوريين على مر العصور. فعلى سبيل المثال، استوحى الشعراء السوريون روحانيتهم وعذوبة قصائدهم من أجواء هذا المعلم التاريخي. أبدع العديد منهم قصائد تحمل في ثناياها التفاصيل المعمارية الرائعة للجامع، بالإضافة إلى رمزيته الدينية والثقافية العميقة.

لم يقتصر تأثير الجامع على الأدب فحسب، بل تجاوزه إلى الفنون البصرية أيضاً. نجد الجامع في اللوحات الزيتية التي أبدعها الفنانون التشكيليون السوريون، الذين حرصوا على تصوير زواياه ومناظره المختلفة، مما يعكس التنوع الفني والمعماري الخلاب لمدينة حماة. التناغم بين الألوان والزخارف الهندسية يظهر جلياً في الأعمال الفنية، حيث يسعى الفنانون إلى تجسيد الجمال الروحي والمادي للجامع.

كما أن الجامع لعب دوراً بارزاً في الأعمال الموسيقية والمسرحية السورية. فقد استفاد الملحنون والموسيقيون من أصداء الجامع وإيقاعاته المميزة في أعمالهم. تتمثل هذه الأعمال الموسيقية في الأغاني التي تستلهم من الرؤى والأحاسيس المرتبطة بالجامع، مما يضفي عليها جانباً روحانياً وتأملياً خاصاً. أما في المسرح، فقد شهدت الخشبات السورية أعمالاً تتناول تاريخ الجامع وتفاعل الناس معه، مما يعزز من مكانته كرمز ثقافي وإنساني عميق.

ويمكن القول إن الجامع الأعلى الكبير يمثل أحد أهم الرموز في الثقافة السورية، وترك أثراً لا يمحى في قلوب وعقول الأدباء والفنانين عبر الزمن. كان الجامع ولا يزال منبعاً للإلهام، حيث يمتزج فيه الجمال الروحي بالعمارة الإسلامية العريقة، ليصبح جزءاً لا يتجزأ من الهوية الفنية والثقافية لسوريا.

اقرأ أيضاً:  المتحف الوطني في دمشق: تاريخ وتطورات

الزيارة السياحية للجامع

يعد الجامع الأعلى الكبير في مدينة حماة وجهة سياحية مميزة تستقطب الزوار من مختلف أنحاء العالم، لما يتميز به من أهمية تاريخية ومعمارية. للوصول إلى الجامع، يمكن للزوار الاستفادة من وسائل النقل المختلفة المتاحة في المدينة، سواء كانت حافلات النقل العام أو سيارات الأجرة. كما يمكن للزوار الذين يفضلون المشي استكشاف الجامع سيراً على الأقدام إذا كانوا يمكثون في وسط المدينة.

يوفر الجامع للزوار تجربة فريدة حيث يمكنهم الاستمتاع بجولة داخلية تعكس تاريخاً طويلاً وثرياً. تبدأ الجولات عادة بشرح تاريخ الجامع وتفاصيل بنائه، مروراً بمراحله الزمنية المختلفة. ولا تقتصر الأنشطة السياحية في الجامع على الجولات الإرشادية فقط، بل يمكن للزوار الاستمتاع بإقامة الصلاة أو التأمل في أجواء روحانية مميزة.

من بين أهم المعالم التي يمكن زيارتها في محيط الجامع الأعلى الكبير نذكر الساحة الرئيسية، التي تزينها نافورة تاريخية وحدائق خضراء تمنح الزوار فرصة للاسترخاء. يمكن للزوار أيضاً الاستفادة من وجود مقاهي ومطاعم محلية، تقدم أشهى المأكولات والمشروبات السورية التقليدية، مما يتيح لهم تجربة ثقافة المدينة من جوانبها المختلفة.

يضاف إلى ذلك، أن محيط الجامع يحتضن العديد من المتاجر التي تبيع الهدايا التذكارية والأعمال اليدوية، مما يوفر للزوار فرصة لاقتناء تذكارات من زيارتهم للجامع وللمدينة. إن زيارة الجامع الأعلى الكبير في حماة تقدم تجربة شاملة وممتعة للزوار، تدمج بين التاريخ، الثقافة والترفيه.

الجامع الأعلى الكبير: حاضر ومستقبل

يعتبر الجامع الأعلى الكبير في مدينة حماة من أبرز المعالم التاريخية والدينية في المنطقة. يحتفظ الجامع بجماله المعماري وزخارفه الفريدة، لكنه يواجه حاليًا مجموعة من التحديات. من أبرز هذه التحديات الحفاظ على التراث المعماري للجامع بوجود العوامل البيئية والتغيرات المناخية التي قد تؤثر على حالة البناء. إن الحفاظ على هذا الصرح التاريخي يتطلب جهوداً متواصلة وأبحاثاً معمقة في مجال ترميم الآثار.

حاليًا، تجري العديد من المبادرات المحلية والدولية لتقييم حالة الجامع وتقديم المشورة حول أفضل السبل لحمايته. تتضمن هذه الجهود التعاون بين الخبراء في مجالات الهندسة المعمارية والترميم والجامعات والمؤسسات الثقافية. إحدى الخطوات الهامة في هذا السياق هو تبني تقنيات حديثة في أعمال الترميم، مع الحرص على الاحتفاظ بالطابع التاريخي للجامع.

من ناحية أخرى، تمتلك حماة خُطط تطويرية تهدف إلى تعزيز دور الجامع الأعلى الكبير كمركز ثقافي وتاريخي. يمكن لهذه الخطط أن تشمل إنشاء متاحف تفاعلية ومراكز تعليمية تُعنى بتقديم التاريخ والثقافة الإسلامية وتاريخ المنطقة بوجه خاص. بالإضافة إلى ذلك، هناك توجه نحو تعزيز البُنية التحتية المحيطة بالجامع لتسهيل الوصول إليه واستقطاب الزوار من داخل وخارج سوريا.

تعزيز السياحة يمكن أن يُحدث تأثيرًا كبيرًا في الاقتصاد المحلي، بالإضافة إلى نشر الوعي الثقافي والتاريخي بين المجتمعات والزوار. هنا، يلعب الجامع الأعلى الكبير دورًا مستقبليًا هامًا لدعم السياحة الثقافية والتعليمية في حماة. من خلال التكامل بين المحافظة على التراث وتطويره، يمكن أن يصبح الجامع رمزاً للتاريخ الحي المستمر في إشعاعه وتأثيره على الأجيال القادمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى