مدينة بصرى: جوهرة أثرية في قلب سوريا
بصرى، جوهرة أثرية تقع في قلب الشرق الأوسط، تُعَدُّ واحدة من أبرز المدن التاريخية في سوريا. على مر العصور، كانت بصرى شاهداً على تقلبات الزمن وتحولات الحضارات، حيث تعاقبت عليها الإمبراطوريات وأثرت فيها بإبداعاتها المعمارية والثقافية. هذه المدينة ليست مجرد موقع أثري؛ بل هي رواية تاريخية حية تحكي قصة الإنسان وتفاعله مع بيئته عبر آلاف السنين.
في هذه المقالة، سنستعرض تاريخ بصرى العريق، من بدايات الاستيطان فيها إلى عصور الازدهار تحت حكم الأنباط والرومان، وحتى الحقبة المسيحية. سنلقي نظرة على الأبحاث الأثرية التي كشفت عن أسرار المدينة وأبرز معالمها، بفضل جهود الباحثين والمستكشفين الذين عملوا بلا كلل لفهم تاريخ هذا الموقع الاستثنائي. انضموا إلينا في رحلة عبر الزمن، لاستكشاف ما يجعل من بصرى مكاناً فريداً يستحق كل هذا الاهتمام والتقدير.
البحوث الأثرية في بصرى
بدأت الأبحاث الأثرية في هذه المدينة منذ فترات طويلة وخاصة في القرن التاسع عشر، عندما زارها الكونت الفرنسي ملكيور دو فوغيه (De.Vogue) الذي ترك عدداً من الرسومات حول عدد من المباني الأثرية في بصرى، كما قام الأمريكي هوارد بتلر (H.Butler) بدراسة عدد من المباني فيها في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث تناولت الدراسات مختلف المباني الثرية التي تعود إلى عصور القرن العشرين، حيث تناولت الدراسات مختلف المباني الأثرية التي تعود إلى عصور مختلفة (النبطية -الرومانية – البيزنطية – الإسلامية ) . ثم عملت في بصرى البعثة الأثرية الفرنسية منذ عدة عقود برئاسة جان ماري دانتزر (J.M.Dentzer)، وتحولت البعثة إلى بعثة سورية فرنسية مشتركة منذ عقد التسعينيات. وقد كان للبعثة الوطنية برئاسة المرحوم سليمان مقداد دور مهم في الكشف عن عدد من المباني فيها. كما شارك في البحث الأثري في هذه المدينة والمناطق المجاورة لها عدد من الباحثين في الآثار والتاريخ والكتابات والعمارة مثل فرانك بريمر (F.Baemer)، موريس سارتر (M.Sartre)، و أني سارتر (A.Sartre)، وفرانسوا فيلنوف (F.Villeneuve)، وكريستيان أوجيه (CH.Auge)، وجاكلين دانتزر (J.Dantzer)، وتوماس فيبر (T.Weber) وبيير ماري بلان (P.M.Blanc)، تيبو وبولين فورنيه (TetP.Fournet)،وجاك لوبلان (J.Leblanc)، كما عمل عدد آخر من الباحثين في هذا الموقع في مواضيع مختلفة من الجنسيات السورية والفرنسية والألمانية والإيطالية …الخ.
الاستيطان في بصرى
يعود الاستيطان في هذا الموقع إلى عصور سابقة للعصور الكلاسيكية، وتم التأكد من ذلك من خلال الدلائل الأثرية الموجودة فيه وخاصة في الجهة الغربية، حيث دلت المسوحات والتـنقيبات الأثرية على استيطانه من الألف الثاني قبل الميلاد، كما أن نصوص مراسلات تل العمارنة تشير إلى وجود اسم بصرى في الألف الثاني قبل الميلاد.
تشغل المدينة العائدة إلى عصر البرونز الوسيط في غرب المدينة مساحة بحوالي 20 هكتاراً على شكل شبه مستطيل، وأكدت دراسة آثار التحصينات في هذه الجهة من المدينة على أهمية بصرى كموقع حصين خلال تللك الفترة.
العهد النبطي
تؤكد المصادر التاريخية انتشار المد النبطي في هذه المدينة في منتصف القرن الثاني قبل الميلاد، دون أن تتبع المدينة إلى سيطرة الملوك الأنباط، بل كانت تتبع إلى حكم الملوك السلوقيين.
كان الوجود النبطي خلال هذه الفترة متمثلاً بمجموعات من الرعاة المنتشرين في منطقة بصرى وغيرها من مناطق حوران. وخلال القرن الأول قبل الميلاد والقرن الأول الميلادي عاشت المدينة نهضة اقتصادية انعكست على مبانيها، وكانت المدينة تحت سيطرة الملوك الأنباط وعاصمتهم الثانية لهم.
تعود إلى هذه الفترة الكثير من المباني والعناصر المعمارية، حيث تم الكشف عن الكثير من الفخار ذي النمط النبطي في عدة أماكن من المدينة، كما تم تصحيح الأفكار السابقة التي تفيد بانحصار التواجد النبطي في الجهة الشرقية من المدينة، ولكن الدراسات الأثرية أكدت وجود استيطان نبطي في عدة مواضع في المدينة حتى في الجهة الغربية منها. زارها عدد من الملوك الأنباط دون أن يستقروا فيها، وانحصر وجودهم لأوقات محدودة أثناء فترة الأعياد أو الحروب، حيث بقيت البتراء العاصمة الأولى لهم.
إن حدود المدينة في عهد سيطرة الأنباط غير معروفة تماماً، ولكن كما ذكرنا فإنها تمتد على مساحات كبيرة، وأهم الآثار موجودة في الجهة الشرقية من المدينة، ومنها القوس النبطي الذي يتألف من أعمدة وتيجان نبطية الطراز، كما يعود الشارع الرئيس الممتد من الشرق إلى الغرب إلى النصف الثاني من القرن الأول للميلاد.
بلغت مساحة المدينة حوالي 90 هكتاراً، وقد تم تنظيم وتأمين وجر المياه اللازمة للشرب إلى المدينة عن طريق الأقنية، وخزنها فيما يسمى بالبركة في الجهة الشرقية منها.
العهد الروماني
تم إلحاق المدينة سنة 106 م، بالولاية العربية التي تم إنشاؤها من قبل الإمبراطور تراجانوس، وأصبحت عاصمة لها. وبشكل سريع تلقت المدينة المؤسسات الإدارية ذات الطابع الروماني، التي جعلت من المدينة عاصمة حقيقية للولاية الجديدة.
العهد السيفيري
أصبحت بصرى خلال حكم الأسرة السيفيرية مدينة هامة، وعاشت نهضة اقتصادية ومعمارية تمثلت بتنظيم شوارعها شبه شطرنجية، أحيطت بها الأروقة والمحلات على غرار المدن السورية الكبرى الأخرى خلال هذا العصر.
لم تكن المباني الجديدة من المسرح والملعب والحمامات مخصصة فقط للجيش والموظفين الرومان، بل كانت أيضاً مخصصة للسكان المحليين ذوي الأصول الآرامية العربية، الذين كانوا يتحدثون إلى جانب لغتهم الآرامية اللغتين اللاتينية واليونانية، وهما اللغتان الرسميتان في سورية خلال العصر الروماني.
كما كان المهرجان المخصص لإله المدينة ذي الشرى، من أهم احتفالات المدينة التي كان سكان المدينة المحليون والرومان يحتفلون بها. وحازت المدينة خلال العهد السيفيري أيضاً على وضع قانوني خاص، عندما تم رفعها إلى مرتبة مستعمرة، تخول مواطنيها الحصول على حقوق المواطنة الرومانية، والإعفاء من الضرائب.
أما في القرن الثالث، فلم تتأثر المدينة بالدمار الذي لحق بسورية بين الرومان والساسانيين بسبب بعدها عن جبهات الحرف.
انتشرت مشاريع معمارية كبيرة في المدينة، من بناء الحمامات والمسرح ومعبد حوريات الماء، ويبدو ان هذه المشاريع المعمارية بدأت في المدينة خلال عهود الأباطرة هادريانوس وأنطونين التقي والأسرة السيفيرية، فبنيت عدة مبانٍ هامة تهدف إلى تجميل المدينة بما يليق بعاصمة الولاية الجديدة، كما تم تنظيم الشوارع بطريقة هندسية، أحيطت بالأروقة والمحلات.
الحقبة المسيحية
وفي الحقبة المسيحية تعرضت معابد المدينة على دمار كبير، ولا نملك سوى المعلومات المستقاة من الكتابات المكتشفة في المدينة، التي تشير إلى وجود معبد مكرّس لأغسطس بالقرب من المبنى النبطي أو معبد آخر مكرّس للإله جوبيتير أمون.
هندسة المدينة
اكتمل شكل المدينة خلال هذا العصر وأحيطت بالأسوار، يخترقها الشارعان المتقاطعان الكاردو والديكومانوس. يقع المسرح في الجهة الجنوبية من المدينة وإلى جواره المدرج في جهة الغرب، وفي أقصى الجنوب يقع ملعب السيرك، أما المقبرة فتقع في الجهة الجنوبية الغربية من المدينة، وتقع بركة ماء في جهة الشرق، وأخرى في الجهة الجنوبية الشرقية من المدينة، أما الحمامات فتقع في وسط المدينة بالإضافة على الأسواق، أما المعسكر فيوجد في أقصى شمال المدينة…الخ.
خاتمة
تُعَدُّ بصرى نموذجاً رائعاً للمراكز الثقافية والحضارية التي احتضنتها بلاد الشام عبر العصور. مع تاريخ يمتد لآلاف السنين، تُظهر بصرى كيف يمكن لمدينة واحدة أن تكون شاهدة على تطور الحضارات وتفاعلها مع بعضها البعض. من العصور النبطية والرومانية وصولاً إلى الحقبة الإسلامية، مروراً بالفتوحات والتغيرات السياسية والاجتماعية، حافظت بصرى على مكانتها كواحدة من أهم المدن التاريخية في المنطقة.
لقد ساهمت الأبحاث الأثرية التي أجريت في بصرى في كشف النقاب عن العديد من الأسرار والكنوز التاريخية، وذلك بفضل جهود الباحثين من مختلف الجنسيات والخلفيات. هذه الأبحاث لم تكتفِ بالكشف عن المباني والمعالم الأثرية، بل أعطت أيضاً فهماً أعمق لحياة الناس الذين عاشوا في بصرى عبر الزمن، وكيف كانت تفاعلهم مع بيئتهم وأحداث زمانهم.
اليوم، تعتبر بصرى مقصداً سياحياً هاماً يجذب الزوار من مختلف أنحاء العالم، الذين يأتون لاستكشاف عراقة هذه المدينة واستنشاق عبق التاريخ الذي يفوح من كل زاوية فيها. إن الحفاظ على هذا التراث الثري وتعزيزه يتطلب جهوداً متواصلة من المجتمع الدولي، لضمان بقاء بصرى معلماً تاريخياً وثقافياً للأجيال القادمة.
نأمل أن تكون جولتنا في بصرى قد ألهمتكم وقدمت لكم نظرة شاملة على هذه المدينة الرائعة. إذا كنتم تبحثون عن تجربة فريدة تجمع بين الجمال الطبيعي والغنى الثقافي، فإن بصرى بالتأكيد هي الوجهة المثالية.
الأسئلة الشائعة
1 -ما هي بصرى وأين تقع؟
بصرى هي مدينة أثرية تقع في جنوب سوريا، وهي من أبرز المدن التاريخية في المنطقة، وقد كانت مركزًا مهمًا خلال العصور النبطية والرومانية والإسلامية.
2 -ما هي أهمية بصرى التاريخية؟
تُعَدُّ بصرى موقعًا تاريخيًا هامًا نظرًا لتاريخها العريق الذي يمتد لآلاف السنين، حيث كانت مركزًا حضاريًا وثقافيًا مهمًا، وشهدت معارك وأحداثًا تاريخية بارزة.
3 -من هم أبرز الباحثين الذين عملوا في بصرى؟
من أبرز الباحثين الذين عملوا في بصرى: ملكيور دو فوغيه، هوارد بتلر، جان ماري دانتزر، سليمان مقداد، فرانك بريمر، موريس سارتر، جاكلين دانتزر، وغيرهم.
4 -ما هي أقدم فترات الاستيطان في بصرى؟
يعود الاستيطان في بصرى إلى الألف الثاني قبل الميلاد، حيث دلت الدلائل الأثرية على وجود استيطان في هذه الفترة، وخاصة في الجهة الغربية من المدينة.
5 -ما هي العصور التي شهدتها بصرى؟
شهدت بصرى عصورًا متعددة بدءًا من العصور النبطية، مرورًا بالعصور الرومانية والبيزنطية، ووصولاً إلى العصور الإسلامية.
6 -ما هي أبرز المعالم الأثرية في بصرى؟
من أبرز المعالم الأثرية في بصرى: المسرح الروماني، الحمامات، المعسكرات، والشوارع المتقاطعة الكاردو والديكومانوس، بالإضافة إلى العديد من المعابد والأسواق.
7 -ما هي المؤسسات الإدارية التي تأسست في بصرى خلال العهد الروماني؟
تلقت بصرى المؤسسات الإدارية ذات الطابع الروماني، مما جعلها عاصمة حقيقية للولاية العربية التي أنشأها الإمبراطور تراجانوس.
8 -كيف تطورت بصرى خلال حكم الأسرة السيفيرية؟
شهدت بصرى نهضة اقتصادية ومعمارية كبيرة خلال حكم الأسرة السيفيرية، حيث تم بناء العديد من المباني العامة والشوارع المنظمة.
9 -ما هو دور بصرى في الحقبة المسيحية؟
في الحقبة المسيحية، تعرضت معابد بصرى للدمار، لكنها شهدت أيضًا بناء العديد من المباني الهامة وتطورت هندسة المدينة بشكل كبير.
10 -ما هي الأبحاث الأثرية الحديثة في بصرى؟
استمرت الأبحاث الأثرية في بصرى حتى يومنا هذا، بمشاركة بعثات سورية وفرنسية وأخرى من جنسيات متعددة، حيث تم الكشف عن العديد من الأسرار والكنوز التاريخية في المدينة.