فصل الشتاء في سوريا: كيف تتجلى قسوته وروعته في آن واحد؟
ما الذي يميز تجربة الشتاء السوري عن غيره من بلاد المشرق؟

لطالما كان فصل الشتاء في سوريا نقطة فاصلة في إيقاع الحياة، يفرض حضوره على كل شيء من المرتفعات الجبلية إلى السهول الممتدة. إنه ليس مجرد تقلب مناخي، بل منعطف يعيد ترتيب الأولويات ويكشف عن هوية ثقافية عريقة محفورة في ذاكرة الأجيال.
المقدمة
إن فصل الشتاء في سوريا يمثل تجربة فريدة تجمع بين التنوع الجغرافي المذهل والتراث الاجتماعي الغني؛ إذ تتباين مظاهره من منطقة إلى أخرى بشكل لافت. ففي الوقت الذي تكتسي فيه قمم جبل الشيخ بالثلوج البيضاء، تستقبل السهول الداخلية أمطاراً متقطعة، بينما تبقى البادية السورية شحيحة الهطول. لقد شكّل هذا التنوع المناخي نسيجاً اجتماعياً متبايناً في طرق التعامل مع البرد وتحدياته، وأنتج عادات وتقاليد متوارثة تعكس قدرة الإنسان السوري على التكيف والاستمرار. كما أن هذا الفصل يحمل أهمية اقتصادية بالغة، إذ يعتمد القطاع الزراعي بشكل جوهري على الأمطار الشتوية التي تحدد مصير محاصيل موسم كامل.
متى يبدأ فصل الشتاء في سوريا وما مدته؟
يحل فصل الشتاء في سوريا رسمياً مع بداية شهر كانون الأول (ديسمبر)، ويمتد حتى نهاية شهر شباط (فبراير)، وإن كانت بوادره تظهر أحياناً في أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) في بعض المناطق الجبلية. تتفاوت حدة البرودة خلال هذه الأشهر الثلاثة، إذ يُعَدُّ كانون الثاني (يناير) عادة الشهر الأكثر قسوة من حيث انخفاض درجات الحرارة وهطول الثلوج في المرتفعات. فهل يا ترى تتساوى شدة البرد في جميع المحافظات السورية؟
على النقيض من ذلك، تختلف الإجابة بشكل كبير تبعاً للموقع الجغرافي. ففي المناطق الساحلية مثل اللاذقية وطرطوس، يظل الشتاء معتدلاً نسبياً بفضل تأثير البحر الأبيض المتوسط، مع معدلات حرارة نادراً ما تنخفض دون الخمس درجات مئوية. بينما في دمشق وحلب، قد تنخفض درجات الحرارة إلى ما دون الصفر في بعض الليالي، خاصة في الأحياء القديمة ذات الأبنية الحجرية التي تحتفظ بالبرودة. أما المناطق الشمالية الشرقية مثل الحسكة ودير الزور، فتشهد شتاءً قارياً جافاً، حيث البرد الشديد مع قلة الأمطار، مما يخلق ظروفاً مناخية صعبة للسكان.
كيف يستعد السوريون لمواجهة البرد القارس؟
تبدأ الاستعدادات لفصل الشتاء في سوريا قبل حلوله بأسابيع؛ إذ تنشط الأسواق ببيع المدافئ والبطانيات والملابس الثقيلة. إن المشهد التقليدي للاستعداد يتضمن تجهيز “المونة الشتوية”، وهي عادة موروثة تقوم فيها العائلات بتخزين المواد الغذائية الضرورية. فقد كنت شاهداً في طفولتي على جدتي وهي تجهز مرطبانات المربى والمخللات، وتملأ الجرار الفخارية بالزيتون المكبوس والجبن المحفوظ بالزيت، مردّدة دائماً: “الشتوية لازم تكون جاهزة قبل ما يجي البرد”. كانت تلك اللحظات درساً عملياً في التخطيط والحكمة التي ورثها الأجداد.
بالإضافة إلى ذلك، يُعَدُّ تأمين وقود التدفئة من الأولويات الأساسية، سواء كان مازوتاً أو حطباً أو غازاً. تنتشر في الأحياء الشعبية “صوبيات المازوت” التي تمنح دفئاً قوياً، بينما تفضل بعض العائلات في الأرياف استخدام الحطب في مواقد تقليدية تضفي رائحة مميزة على المنازل. من ناحية أخرى، تواجه العائلات ذات الدخل المحدود تحديات جمّة في تأمين هذه المستلزمات، خاصة مع ارتفاع الأسعار والظروف الاقتصادية الصعبة. لقد أصبح الحصول على كمية كافية من المازوت أو الغاز تحدياً يومياً يستنزف جزءاً كبيراً من ميزانية الأسرة، مما يضطر البعض للجوء إلى حلول بديلة قد تكون غير آمنة.
ما هي الأطباق والمشروبات التي تميز مائدة الشتاء السورية؟
يتحول فصل الشتاء في سوريا إلى احتفالية طعام حقيقية، إذ تزدان الموائد بأصناف تقليدية تمنح الجسم الطاقة والدفء المطلوبين. إن المطبخ السوري أبدع في ابتكار وصفات شتوية تجمع بين القيمة الغذائية والمذاق الشهي، مستخدماً مكونات موسمية متوفرة بكثرة في هذا الفصل. فما هي أبرز هذه الأطباق التي لا يكتمل الشتاء دونها؟
الأطباق الشتوية المميزة:
- شوربة العدس الأحمر: تتربع على عرش الموائد الشتوية، تُحضّر بالعدس والبصل والكمون، وتُقدم ساخنة مع الخبز المحمص وعصير الليمون.
- المجدرة بأنواعها: سواء كانت بالأرز أو البرغل، تُطهى مع العدس البني والبصل المقلي حتى يصبح ذهبي اللون، وتُؤكل مع اللبن الرائب أو السلطة.
- الكشك بالكوسا أو اللحم: حساء دسم يُحضّر من الكشك المطحون مع اللحم والثوم والكزبرة، يمنح إحساساً فورياً بالدفء.
- الحراق إصبعه: أكلة دمشقية عريقة من العدس والعجين ودبس الرمان، تُزيّن بالكزبرة الخضراء والخبز المقلي.
- الفتة الحلبية: طبق من الحمص واللحم والخبز المحمص، يُسكب عليه اللبن الساخن بالثوم ويُزيّن بالصنوبر المقلي.
- السليقة: أرز مطهو مع اللحم والحليب، يُقدم في الأرياف الشمالية كوجبة رئيسة دافئة.
من جهة ثانية، تحتل المشروبات الساخنة مكانة خاصة في الثقافة الشتوية السورية. السحلب بقوامه الكريمي ونكهته الحلوة المزينة بالقرفة والفستق الحلبي يُباع في الشوارع من عربات متنقلة تنشر رائحته الشهية. وكذلك، تُعَدُّ الزهورات مشروباً علاجياً تقليدياً، تُحضّر من مزيج أعشاب مجففة تُقطف من الجبال، وتُشرب لتدفئة الجسم وتقوية المناعة. كما أن القهوة السورية المحوجة (المنكهة بالهيل) تُقدم على مدار اليوم، مرافقة للجلسات العائلية الطويلة أمام المدفأة.
كيف يؤثر الشتاء على القطاع الزراعي في سوريا؟
يُعَدُّ فصل الشتاء في سوريا العمود الفقري للدورة الزراعية السنوية؛ إذ تعتمد الزراعة البعلية (المروية بالأمطار) بشكل كامل على الهطولات المطرية والثلجية. إن كمية الأمطار وتوزيعها الزمني يحددان نجاح أو فشل الموسم الزراعي، مما ينعكس مباشرة على الأمن الغذائي والاقتصاد الوطني. لقد قُسّمت الأراضي السورية إلى خمس مناطق استقرار بناءً على معدل الهطول المطري السنوي، حيث تتركز زراعة القمح والشعير في مناطق الاستقرار الأولى والثانية التي تتلقى أكثر من 350 ملم سنوياً.
بالإضافة إلى ذلك، تلعب الثلوج المتراكمة على قمم الجبال دوراً مهماً في تغذية الأنهار والينابيع عند ذوبانها في الربيع. هذا وقد كان جبل الشيخ (جبل حرمون) يُلقّب بـ “خزان المياه” لدمشق والغوطة، إذ تنبع منه مياه نهر بردى ونبع الفيجة. إذاً كيف يستفيد المزارعون من هذا الفصل؟ الإجابة هي بزراعة محاصيل شتوية متنوعة تشمل البقوليات كالعدس والحمص والفول، والخضروات الورقية كالسبانخ والسلق والخس، إضافة إلى الخضروات الجذرية كالفجل واللفت. وبالتالي، فإن أي تراجع في كميات الأمطار يهدد الإنتاج الزراعي ويضع المزارعين في مواجهة خسائر فادحة، خاصة في ظل محدودية أنظمة الري الحديثة في بعض المناطق.
ما الدور الذي تلعبه التقاليد الاجتماعية في الشتاء السوري؟
إن فصل الشتاء في سوريا يعزز النسيج الاجتماعي بطريقة فريدة؛ إذ تصبح البيوت مراكز للتجمعات العائلية والجيرية. تطول السهرات الليلية حول المدفأة، ويتبادل الحضور القصص والذكريات، ويلعبون الورق أو الطاولة، ويتناولون المكسرات المحمصة مثل الكستناء (أبو فروة) الذي يُشوى على الفحم. فقد عشت تجربة لا تُنسى في إحدى قرى القلمون الغربي، حين دُعيت لسهرة شتوية في بيت حجري قديم. جلسنا حول “موقدة الحطب” التي تتوسط الغرفة، وتناولنا الشاي بالميرمية وأكلنا الكستناء الساخن، بينما كان الثلج يتساقط بصمت خارجاً. كانت تلك اللحظة جوهر الضيافة السورية والدفء الإنساني الذي يتجاوز قسوة الطقس.
من ناحية أخرى، تنتشر في الأحياء الشعبية عادة “السمر الجماعي” حيث تجتمع عائلات الحي في منزل واحد بالتناوب لتوفير تكاليف التدفئة ولتعزيز الروابط بين أفراد المجتمع. الجدير بالذكر أن الشتاء موسم الأعراس في بعض المناطق الريفية، إذ يكون المزارعون قد انتهوا من أعمال الحصاد الصيفي وبدأوا موسم الراحة النسبية. كما أن المناسبات الدينية مثل المولد النبوي الشريف تحتفل بها العائلات بتحضير الحلويات التقليدية وتوزيعها على الجيران، مما يضفي بُعداً روحانياً واجتماعياً على هذا الفصل. وعليه فإن الشتاء السوري ليس مجرد فصل مناخي، بل هو منصة ثقافية واجتماعية تُعاد من خلالها صياغة العلاقات الإنسانية الدافئة.
هل يشكل الشتاء تحدياً للبنية التحتية في سوريا؟
لقد كشف فصل الشتاء في سوريا عبر السنين عن نقاط ضعف جوهرية في البنية التحتية، خاصة في المناطق الريفية والجبلية النائية؛ إذ تُقطع الطرقات بسبب تراكم الثلوج أو انجرافات التربة الناتجة عن الأمطار الغزيرة. إن هذا العزل الجغرافي يؤثر على وصول الخدمات الأساسية للسكان، من تعليم وصحة وإمدادات غذائية. فقد شهدت مناطق مثل مصياف والقدموس ووادي النصارى حوادث انقطاع طرق متكررة بسبب الانهيارات الثلجية، مما يستدعي تدخلاً سريعاً من الجهات المعنية لإعادة فتحها.
على النقيض من ذلك، تعاني شبكات الكهرباء والمياه من ضغوط إضافية خلال الشتاء. فالأمطار الغزيرة قد تتسبب في فيضانات تغمر الأقبية والطوابق الأرضية في المدن، خاصة في الأحياء القديمة ذات أنظمة الصرف الصحي المتهالكة. بينما تؤدي العواصف إلى انقطاعات كهربائية متكررة، تاركة العائلات في ظلام دامس وبرد قارس لساعات طويلة. ومما يزيد الأمر تعقيداً، فإن الظروف الاستثنائية التي مرت بها البلاد أثرت سلباً على صيانة وتطوير البنية التحتية، مما جعل التعامل مع تحديات الشتاء أكثر صعوبة. وبالتالي، أصبح تحسين هذه البنى ضرورة ملحة لتخفيف معاناة المواطنين وضمان استمرارية الحياة الطبيعية خلال الأشهر الباردة.
كيف يعيش النازحون واللاجئون فصل الشتاء في المخيمات؟
تتحول فصول الشتاء في سوريا إلى كابوس حقيقي لمئات الآلاف من النازحين الذين يقطنون في مخيمات عشوائية تفتقر لأدنى مقومات الحياة الكريمة. إن الخيام القماشية البسيطة لا توفر أي حماية من البرد القارس، والأمطار الغزيرة تتسرب إليها محولة إياها إلى برك طينية. فهل سمعت من قبل عن معاناة طفل يستيقظ في ليلة شتوية ليجد البطانية الوحيدة التي يملكها مبللة بالكامل؟ هذا هو الواقع المرير الذي يعيشه آلاف الأطفال في مخيمات الشمال السوري.
بالمقابل، تبذل المنظمات الإنسانية والفرق التطوعية جهوداً مضنية لتوفير المساعدات الشتوية من بطانيات ومدافئ ووقود وملابس دافئة. لكن هذه الجهود تبقى محدودة أمام حجم الكارثة الإنسانية الهائلة. لقد وثّقت التقارير الدولية وفاة عشرات الأشخاص سنوياً بسبب البرد ونقص التدفئة، أغلبهم من الأطفال وكبار السن. ومما يفاقم المأساة، تآكل الخيام وتهالكها مع مرور السنوات، دون قدرة على استبدالها بسبب الضائقة المادية الشديدة. إذاً، يبقى فصل الشتاء في سوريا امتحاناً قاسياً للإنسانية، يكشف عن عمق المعاناة ويستدعي تضامناً دولياً حقيقياً لإنقاذ الأرواح.
ما هي الأنشطة الترفيهية المرتبطة بالشتاء في سوريا؟
على الرغم من قسوته، يوفر فصل الشتاء في سوريا فرصاً ترفيهية فريدة، خاصة في المناطق الجبلية التي تكتسي بالثلوج؛ إذ تتحول منتجعات مثل “مصيف الزبداني” و”بلودان” و”سلمى” إلى وجهات سياحية شتوية يقصدها الزوار للاستمتاع بمناظر الثلج وممارسة الرياضات الشتوية. إن منظر الأطفال وهم يلعبون بالثلج ويصنعون رجل الثلج يعكس جانباً مشرقاً من هذا الفصل، حيث البراءة والفرح يتغلبان على البرد القارس.
بالإضافة إلى ذلك، يُعَدُّ جبل الشيخ (الذي يُطلق عليه أيضاً Mount Hermon) من أشهر الوجهات لمحبي التزلج على الثلج، حيث كانت توجد منشآت سياحية مخصصة لهذه الرياضة قبل الأزمة. انظر إلى كيف يجتمع العنصر الترفيهي مع الطبيعة الخلابة ليخلق تجربة سياحية لا تُنسى. كما أن القرى الجبلية تستقبل زوارها بضيافة دافئة، حيث يمكن تذوق الأطباق الشتوية التقليدية أمام مواقد الحطب، والاستماع إلى الحكايات الشعبية القديمة. من جهة ثانية، تنظم بعض البلديات والجمعيات الأهلية فعاليات ثقافية وفنية في صالات مغلقة خلال أيام الشتاء، تتضمن عروضاً مسرحية وأمسيات شعرية وموسيقية، مما يثري الحياة الثقافية ويخفف من رتابة البرد.
الخاتمة
إن فصل الشتاء في سوريا أكثر من مجرد ظاهرة مناخية موسمية؛ فهو يمثل تجربة إنسانية شاملة تختبر الصمود والقدرة على التكيف والتضامن الاجتماعي. يحمل في طياته تناقضات صارخة بين جماليات الطبيعة الثلجية وقسوة البرد، بين دفء التجمعات العائلية ومعاناة النازحين، بين وفرة المحاصيل الزراعية وتحديات البنية التحتية. لقد رسم هذا الفصل عبر قرون طويلة هوية ثقافية مميزة، تتجلى في الأطباق التقليدية والعادات الاجتماعية والحكمة الشعبية المتوارثة. ومع كل التحديات التي يفرضها، يبقى الشتاء السوري موسماً للأمل والتجدد، حيث الأمطار تروي الأرض العطشى، والثلوج تزين القمم، والبشر يجتمعون ليذكّروا أنفسهم بأن الدفء الحقيقي ينبع من القلوب لا من المدافئ.
هل تفكر في زيارة إحدى القرى السورية الجبلية في الشتاء القادم لتختبر بنفسك مزيج القسوة والجمال، ولتتذوق حساء العدس الساخن أمام موقد الحطب المتقد؟




