الموارد المائية في سوريا: هل تكفي لتحقيق الأمن المائي؟
كيف تواجه سوريا تحديات ندرة المياه وتدهور مصادرها الطبيعية؟

تمثل قضية المياه في منطقة الشرق الأوسط واحدة من أكثر التحديات إلحاحاً، وتحتل سوريا موقعاً حساساً في هذه المعادلة المعقدة. إن الضغوط المتزايدة على المصادر المائية والتغيرات المناخية والنمو السكاني المتسارع تضع البلاد أمام اختبار حقيقي في إدارة هذا المورد الحيوي.
المقدمة
تقع سوريا ضمن المناطق الجافة وشبه الجافة، مما يجعل الموارد المائية في سوريا محدودة بطبيعتها الجغرافية والمناخية. لقد شكلت المياه عبر التاريخ عصب الحياة في هذه المنطقة، إذ نشأت على ضفاف أنهارها حضارات عريقة وازدهرت مدن كبرى. ومع ذلك، فإن التحديات المعاصرة التي تواجه القطاع المائي تتطلب فهماً شاملاً لطبيعة هذه الموارد ومصادرها وأنماط استخدامها.
يشهد الوضع المائي السوري تعقيداً متزايداً نتيجة عوامل متعددة تتراوح بين التغيرات المناخية والممارسات الزراعية غير المستدامة وصولاً إلى القضايا السياسية والنزاعات الإقليمية حول مياه الأنهار المشتركة. بالإضافة إلى ذلك، فقد أدت السنوات الأخيرة إلى تفاقم الأوضاع بشكل غير مسبوق، مما يستدعي تسليط الضوء على واقع المياه وآفاقها المستقبلية.
المصادر المائية السطحية والأنهار العابرة للحدود
تعتمد الموارد المائية في سوريا بشكل كبير على الأنهار الكبرى التي تعبر أراضيها، وفي مقدمتها نهر الفرات الذي يُعَدُّ الشريان المائي الأكثر أهمية للبلاد. ينبع هذا النهر من تركيا ويجري عبر الأراضي السورية قاطعاً مسافة تزيد عن 600 كيلومتر قبل أن يدخل العراق، وقد وفر تاريخياً ما يقارب ثلث إجمالي الموارد المائية المتاحة. إن بناء السدود الكبرى على مجرى الفرات، مثل سد الفرات (سد الثورة) وسد تشرين وسد البعث، ساهم في توليد الطاقة الكهرومائية وري مساحات زراعية واسعة، لكن التحكم التركي في منسوب المياه عبر السدود المقامة على أراضيها أثار قضايا مائية حساسة.
من جهة ثانية، يمثل نهر العاصي (Orontes) مصدراً مهماً آخر، وهو النهر الوحيد الذي ينبع من الأراضي اللبنانية ويجري شمالاً عبر سوريا باتجاه تركيا. كما أن نهر دجلة يمر في أقصى الشمال الشرقي لمسافة قصيرة، ونهر اليرموك في الجنوب يشكل جزءاً من الحدود مع الأردن. وبالتالي فإن معظم الأنهار السورية هي أنهار مشتركة، مما يضع إدارة الموارد المائية في سوريا تحت تأثير السياسات والاتفاقيات الدولية والعلاقات الإقليمية المتغيرة.
المياه الجوفية والأمطار كمصادر تكميلية
تشكل المياه الجوفية (Groundwater) مكوناً حيوياً ضمن منظومة المياه السورية، إذ تنتشر عدة أحواض جوفية عبر مناطق مختلفة من البلاد. تتباين نوعية هذه المياه وكمياتها حسب التكوينات الجيولوجية، ففي حين توجد أحواض غنية نسبياً في مناطق الساحل والسهول الشمالية، نجد أحواضاً أخرى في المناطق الداخلية تعاني من الملوحة العالية أو محدودية التغذية. فما هي المشكلة الكبرى التي تواجه هذا المصدر؟ الإجابة تكمن في الاستنزاف المفرط والضخ الجائر الذي أدى إلى انخفاض منسوب المياه الجوفية بشكل خطير في بعض المناطق، خاصة في الأحواض الشرقية.
بينما تساهم الأمطار في تغذية الأنهار والمياه الجوفية، فإن توزيعها الجغرافي غير متساوٍ عبر البلاد. تتلقى المناطق الساحلية والجبلية الغربية معدلات أمطار تتراوح بين 700-1000 ملم سنوياً، بينما تنخفض هذه المعدلات تدريجياً نحو الشرق والجنوب الشرقي لتصل إلى أقل من 200 ملم في البادية السورية. وعليه فإن هذا التباين يخلق تفاوتاً واضحاً في توافر الموارد المائية في سوريا بين منطقة وأخرى، ويفرض تحديات على التوزيع العادل والاستخدام الأمثل للمياه المتاحة.
القطاعات المستهلكة للمياه والأنماط الاستخدامية
الزراعة كمستهلك رئيس للموارد المائية
يستحوذ القطاع الزراعي على النسبة الأكبر من استهلاك المياه في سوريا، إذ تشير التقديرات إلى أن الزراعة تستهلك ما يزيد عن 85% من إجمالي الموارد المائية المتاحة. لقد أدى التوسع في المساحات المروية خلال العقود الماضية، خاصة في مناطق حوض الفرات والجزيرة السورية، إلى زيادة كبيرة في الطلب على المياه. ومما يزيد الأمر تعقيداً أن أساليب الري التقليدية مثل الري السطحي والغمر لا تزال سائدة في مناطق واسعة، مما يؤدي إلى هدر كبير في المياه قد يصل إلى 50% من الكميات المستخدمة.
من ناحية أخرى، تشمل المحاصيل المزروعة أنواعاً كثيفة الاستهلاك المائي كالقطن والشمندر السكري والذرة، إلى جانب زراعة القمح والشعير. فهل يا ترى تتناسب هذه الأنماط الزراعية مع الواقع المائي المحدود؟ الواقع يشير إلى عدم التوازن بين الموارد المتاحة والاستخدامات القائمة، مما يستدعي إعادة النظر في التركيبة المحصولية وتبني تقنيات ري حديثة مثل الري بالتنقيط والرش التي تحقق كفاءة أعلى في استخدام المياه.
الاستخدامات المنزلية والصناعية
يأتي الاستهلاك المنزلي والبلدي في المرتبة الثانية من حيث الأهمية، ويشمل مياه الشرب والاستخدامات المنزلية والخدمات العامة. كما أن النمو السكاني الذي شهدته سوريا على مدى العقود الماضية أدى إلى زيادة ملحوظة في الطلب على مياه الشرب، خاصة في المدن الكبرى مثل دمشق وحلب وحمص. تعاني شبكات المياه البلدية من مشاكل عديدة تشمل التسربات الكبيرة وقدم البنية التحتية وانقطاع التغذية في فترات معينة، مما يقلل من كفاءة توصيل المياه ويزيد من الهدر.
بالإضافة إلى ذلك، يستهلك القطاع الصناعي نسبة أقل نسبياً من الموارد المائية في سوريا، لكنه يطرح تحدياً نوعياً يتمثل في تلوث المياه العادمة الصناعية. إن العديد من المنشآت الصناعية تفتقر إلى محطات معالجة فعالة، مما يؤدي إلى تصريف مياه ملوثة في الأنهار أو المجاري المائية، وبالتالي تدهور نوعية المياه السطحية والجوفية في بعض المناطق.
التحديات والضغوط على النظام المائي
تواجه الموارد المائية في سوريا جملة من التحديات المعقدة التي تهدد استدامتها على المدى البعيد. يأتي التغير المناخي (Climate Change) في صدارة هذه التحديات، إذ تشير الدراسات إلى انخفاض معدلات الأمطار السنوية وارتفاع درجات الحرارة، مما يزيد من معدلات التبخر ويقلل من كميات المياه المتاحة. لقد شهدت سوريا في السنوات الأخيرة موجات جفاف حادة أثرت بشكل كبير على المحاصيل الزراعية والثروة الحيوانية، خاصة في المناطق الشرقية والشمالية الشرقية.
من جهة ثانية، تمثل الاتفاقيات المائية مع دول الجوار قضية حساسة ومستمرة. إن غياب اتفاقيات ملزمة وعادلة حول تقاسم مياه الأنهار المشتركة، خاصة نهر الفرات مع تركيا، يضع سوريا في موقف ضعيف. فقد انخفض تدفق مياه الفرات إلى الأراضي السورية بشكل ملحوظ خلال السنوات الماضية نتيجة السياسات المائية التركية وبناء السدود الكبرى، مما أثر سلباً على الزراعة المروية وتوليد الطاقة الكهربائية وتوفير مياه الشرب لملايين السكان.
الآثار البيئية والاجتماعية لأزمة المياه
التدهور البيئي وتراجع الأراضي الزراعية
أدى النقص المتزايد في المياه إلى تدهور بيئي واضح يشمل تراجع الغطاء النباتي وزحف التصحر وتملح التربة في المناطق المروية. إن الاستخدام المفرط للمياه الجوفية في مناطق البادية أدى إلى جفاف الآبار التقليدية وتدمير النظم البيئية الهشة. وكذلك فإن انخفاض مناسيب البحيرات الصناعية مثل بحيرة الأسد (خزان سد الفرات) له تداعيات بيئية كبيرة على التنوع الحيوي والمناخ المحلي.
انظر إلى الأراضي الزراعية التي كانت منتجة قبل عقود، فقد تحولت مساحات واسعة منها إلى أراضٍ جرداء أو منخفضة الإنتاجية. إن ظاهرة التملح ناتجة عن سوء إدارة الري وعدم توفر شبكات صرف كافية، مما يؤدي إلى تراكم الأملاح في التربة وتدهور خصوبتها. بالمقابل، فإن بعض المناطق التي اعتمدت تقنيات حديثة في الري وإدارة التربة حافظت على إنتاجيتها بشكل أفضل.
التأثيرات الاجتماعية والنزوح الداخلي
تركت أزمة المياه آثاراً اجتماعية عميقة على السكان، خاصة في المناطق الريفية التي تعتمد على الزراعة كمصدر رئيس للدخل. لقد اضطرت أعداد كبيرة من الأسر الريفية إلى النزوح نحو المدن بحثاً عن فرص عمل بديلة بعد جفاف آبارهم وتدهور أراضيهم. هذا وقد ساهمت موجات الجفاف المتعاقبة في تفاقم الفقر الريفي وزيادة الضغط على الخدمات الحضرية.
كما أن نقص مياه الشرب في بعض المناطق أجبر السكان على قطع مسافات طويلة لجلب الماء أو شراء المياه بأسعار مرتفعة، مما يثقل كاهل الأسر ذات الدخل المحدود. ومما يزيد الأمر سوءاً أن تدهور نوعية المياه المتاحة في بعض المناطق أدى إلى انتشار الأمراض المنقولة عبر المياه، خاصة بين الأطفال وكبار السن.
السياسات والحلول المقترحة لإدارة المياه
تتطلب معالجة أزمة الموارد المائية في سوريا تبني سياسات متكاملة تجمع بين الحلول التقنية والإدارية والتشريعية. إذاً كيف يمكن تحقيق الاستدامة المائية في ظل الضغوط المتزايدة؟ يكمن الحل في مجموعة من الإجراءات المترابطة، أولها تحديث البنية التحتية المائية وترميم الشبكات القديمة للحد من التسربات والهدر. إن الاستثمار في تقنيات الري الحديثة وتشجيع المزارعين على تبنيها من خلال الدعم الفني والمالي يمكن أن يوفر كميات كبيرة من المياه.
من ناحية أخرى، فإن تحسين إدارة الأحواض المائية والحد من الضخ الجائر للمياه الجوفية يتطلب تشريعات صارمة ونظام مراقبة فعال. بالإضافة إلى ذلك، فإن معالجة المياه العادمة وإعادة استخدامها في الزراعة والصناعة تمثل مصدراً إضافياً يمكن أن يخفف الضغط على الموارد التقليدية. وعليه فإن بناء محطات معالجة حديثة وتطوير البنية التحتية اللازمة لنقل المياه المعالجة يُعَدُّ استثماراً ضرورياً للمستقبل.
التعاون الإقليمي والاتفاقيات المائية المشتركة
لا يمكن الحديث عن استدامة الموارد المائية في سوريا دون معالجة قضية الأنهار المشتركة والحاجة إلى اتفاقيات عادلة وملزمة مع دول المنبع. إن التوصل إلى تفاهمات واضحة حول حصص المياه وآليات الإدارة المشتركة يمثل أولوية قصوى. فقد أثبتت التجارب الدولية أن التعاون المائي الإقليمي يحقق منافع متبادلة ويقلل من احتمالات النزاعات.
كما أن تبادل الخبرات والتقنيات مع الدول التي واجهت تحديات مائية مشابهة يمكن أن يوفر حلولاً مبتكرة ومجربة. وكذلك فإن الانضمام إلى المبادرات الإقليمية والدولية المعنية بإدارة المياه والتكيف مع التغير المناخي يفتح المجال للحصول على الدعم الفني والتمويل اللازم لتنفيذ المشاريع المائية الكبرى.
الخاتمة
تمثل الموارد المائية في سوريا قضية حيوية ومصيرية تتطلب تحركاً عاجلاً وشاملاً على جميع المستويات. إن التحديات التي تواجه القطاع المائي متعددة ومعقدة، لكنها ليست مستعصية على الحل إذا توفرت الإرادة السياسية والموارد اللازمة. لقد آن الأوان لتبني نهج متكامل في إدارة المياه يجمع بين الحفاظ على الموارد الحالية وتطوير مصادر جديدة وتحسين كفاءة الاستخدام وتعزيز التعاون الإقليمي. إن مستقبل الأمن المائي السوري يعتمد على القرارات والسياسات التي تتخذ اليوم، ومسؤولية الأجيال الحالية تجاه الأجيال القادمة تحتم عليها العمل الجاد لحماية هذا المورد الثمين وضمان استدامته.
هل أنت مستعد للمساهمة في ترشيد استهلاك المياه والحفاظ على هذا المورد الحيوي لمستقبل أفضل؟




