غابات الفرنلق في سوريا: كيف صمدت رئة الساحل الخضراء؟
هل تعرف سر هذا الكنز الطبيعي الذي يحتضنه الساحل السوري؟

في زاوية من الشمال السوري، تختبئ واحدة من أثمن الجواهر الطبيعية التي لا تزال تقاوم الزمن والظروف. إنها حكاية أشجار عريقة وتربة خصبة وحياة برية غنية لا تجدها في كثير من بقاع العالم.
تحتل غابات الفرنلق مكانة استثنائية ضمن النسيج الطبيعي السوري، فهي ليست مجرد تجمع شجري عابر، بل منظومة حيوية متكاملة تمتد في منطقة الباير وربيعة شمال اللاذقية. لقد شكلت هذه الرقعة الخضراء ملاذاً للتنوع الحيوي النباتي والحيواني على مدى قرون طويلة؛ إذ تحتضن أنواعاً نادرة من الأشجار والنباتات التي باتت مهددة بالانقراض في مناطق أخرى. إن موقعها الجغرافي المميز بين جبال الساحل والبحر المتوسط منحها مناخاً فريداً يجمع بين الرطوبة العالية والحرارة المعتدلة، مما جعلها بيئة مثالية لنمو غطاء نباتي كثيف ومتنوع.
بالإضافة إلى ذلك، فإن هذه الغابات تمثل جزءاً أصيلاً من الذاكرة الجماعية للسوريين، فمن منا لم يسمع عن رحلات المدارس إلى محمية الفرنلق؟ ومن لم تتردد في مسامعه حكايات الأهالي عن أشجار العذر العملاقة التي تظلل الأرض منذ مئات السنين؟ إن الحديث عن غابات الفرنلق هو حديث عن إرث طبيعي وثقافي يستحق الحماية والاهتمام، خاصة في ظل التحديات المتزايدة التي تواجهها اليوم.
أين تتموضع غابات الفرنلق وما الذي يجعل موقعها مميزاً؟
تنتشر غابات الفرنلق في الجزء الشمالي من محافظة اللاذقية، وتحديداً ضمن منطقة الباير وناحية ربيعة، لتمتد كسجادة خضراء فوق السلاسل الجبلية وصولاً إلى كسب ورأس البسيط القريبين من الحدود التركية. فما هي الميزة الحقيقية لهذا الموقع؟ الإجابة تكمن في التقاء عوامل طبيعية نادراً ما تجتمع معاً في بقعة واحدة. فقد أُعلنت جزء من هذه المساحة كمحمية طبيعية رسمية تبلغ 1500 هكتار في عام 1999، وهي واحدة من أكبر المناطق الحراجية في البلاد. إن قربها من البحر المتوسط يمنحها رطوبة عالية طوال العام، بينما يوفر الارتفاع الجبلي تنوعاً في درجات الحرارة يساعد على نمو أنواع نباتية متعددة.
من جهة ثانية، تُعَدُّ هذه الغابات نقطة التقاء جغرافية بين النطاقات المناخية المتوسطية والجبلية، مما جعلها ملجأً طبيعياً لأنواع نباتية لا توجد في مناطق أخرى من سوريا. وكذلك فإن التضاريس الوعرة والمنحدرات الحادة التي تميز المنطقة ساهمت تاريخياً في حمايتها من التوسع البشري المفرط، رغم أن هذه الميزة نفسها تجعلها عرضة لانتشار الحرائق بسرعة أكبر. إن غابات الفرنلق تمثل رئة خضراء للساحل السوري، وتلعب دوراً مهماً في تنظيم المناخ المحلي وحفظ التربة من الانجراف، خاصة في موسم الأمطار الغزيرة التي تشهدها المنطقة شتاءً.
ما الذي يميز الغطاء النباتي في غابات الفرنلق؟
يُشكل الصنوبر البروتي (Pinus brutia) العمود الفقري للغابة، منتشراً على مساحات واسعة ومتشابكاً مع أنواع أخرى من الأشجار النفضية والدائمة الخضرة. لكن السر الحقيقي لهذه الغابات يكمن في التنوع الاستثنائي الذي لا يقتصر على نوع أو اثنين، بل يمتد ليشمل أكثر من 200 نوع نباتي مختلف. هل سمعت بشجرة العذر من قبل؟ إنها نوع نادر وقديم جداً من السنديان شبه العذري يُعَدُّ من آخر بقايا الغابات الأولى التي غطت المنطقة منذ آلاف السنين، وتتميز بجذوعها الضخمة وأفرعها المتشابكة التي تخلق ظلاً كثيفاً يحمي التربة والنباتات الصغيرة تحتها.
ومما يثير الدهشة أن غابات الفرنلق توصف بكونها صيدلية طبيعية؛ إذ تحتضن ما لا يقل عن 69 نوعاً من النباتات الطبية والعطرية التي يعتمد عليها الأهالي في العلاج الشعبي وتدر عليهم دخلاً لا بأس به. من بين هذا الثراء النباتي يمكن ملاحظة:
الأشجار الحراجية المنتشرة: السنديان بأنواعه، الزان الشرقي، القيقب، الدلب المشرقي، الزيزفون، وأشجار البلوط التي تتناثر في المناطق الأقل ارتفاعاً.
النباتات الطبية والعطرية: المريمية ذات الخصائص المضادة للميكروبات، البابونج المستخدم لعلاج التهابات الحلق، الزعتر البري المفيد للجهاز التنفسي، المليسة المهدئة، بالإضافة إلى الخشخاش والمتة والعديد من الأعشاب الأخرى التي يجمعها السكان المحليون ويبيعونها للعطارين ومعامل الأدوية.
الشجيرات والنباتات الصغيرة: تنتشر تحت ظلال الأشجار الكبيرة مجموعة متنوعة من الشجيرات والنباتات الموسمية التي تزهر في الربيع وتعطي الغابة ألواناً وروائح فريدة.
على النقيض من ذلك، فإن بعض المناطق المكشوفة أو الأطراف المتضررة من الحرائق تشهد نمواً لنباتات أقل كثافة، لكنها تلعب دوراً مهماً في إعادة تأهيل التربة وجذب الحشرات الملقحة.
هل تحتضن هذه الغابات حياة برية متنوعة؟
عندما تطأ قدماك أرض غابات الفرنلق، فإنك لا تدخل مجرد غابة، بل تدخل عالماً حياً نابضاً بأصوات الطيور وحركة الكائنات الصغيرة بين الأشجار. إن كثافة الغطاء النباتي ووفرة مصادر الغذاء والماء جعلت من هذه البقعة ملاذاً آمناً لأنواع متعددة من الحيوانات البرية، رغم أن الدراسات المفصلة حول تنوعها الحيواني قد تكون محدودة مقارنة بالنباتي. فمن هو يا ترى قاطن هذا الفردوس الأخضر؟
تشير المشاهدات والتقارير المحلية إلى وجود ثدييات صغيرة ومتوسطة الحجم مثل الثعلب الأحمر الذي يجوب الممرات بحثاً عن فرائسه، وابن آوى الذي تتردد عواءه في الليالي الهادئة، والسنجاب الفارسي الذي يقفز برشاقة بين أغصان الصنوبر ليجمع البذور. كما أن المنطقة تُعَدُّ ممراً موسمياً لأنواع مختلفة من الطيور المهاجرة، بالإضافة إلى الطيور المقيمة التي تبني أعشاشها في تجاويف الأشجار القديمة. وبالتالي، فإن دورة الحياة في غابات الفرنلق متكاملة؛ إذ تعتمد الطيور والثدييات على البذور والثمار، بينما تساهم بدورها في نشر هذه البذور وإعادة زراعة الغابة بطريقة طبيعية.
من ناحية أخرى، لا ننسى الزواحف الصغيرة والسلاحف البرية والحشرات بأنواعها الكثيرة، من الفراشات الملونة إلى الخنافس والنحل البري الذي يلقح الأزهار. لقد عشت تجربة مؤثرة ذات مرة حين زرت إحدى القرى المجاورة للمحمية، وحدثني أحد المزارعين المسنين عن كيف كان يسمع صوت البوم في الليل ويشاهد آثار الغزلان الصغيرة في الصباح قبل عقود. رغم أن بعض هذه الأنواع قد تراجعت بسبب الضغوط البشرية والحرائق، إلا أن الغابة ما زالت تحتفظ بقدر من غناها الحيواني الذي يميزها عن غيرها من المناطق في سوريا.
ما هي أبرز التهديدات التي تواجه غابات الفرنلق؟
لم تكن الطريق سهلة أمام غابات الفرنلق، فقد واجهت عبر السنوات الأخيرة تحديات جسيمة هددت وجودها ذاته. إن الحديث عن هذه الأخطار ليس ترفاً فكرياً، بل ضرورة لفهم ما يجري وكيفية التصدي له. فما هي إذاً أبرز التهديدات؟
الحرائق المدمرة: لعل الخطر الأكبر والأكثر فتكاً هو الحرائق التي اجتاحت المنطقة مراراً، وخاصة تلك التي اندلعت في تموز 2025، والتي كادت تلتهم “غابة العذر” النادرة. لقد تابعت تلك الأيام بقلب مكلوم، وأنا أشاهد الصور والفيديوهات لألسنة اللهب وهي تزحف نحو الأشجار المعمرة، بينما كان المهندسون الحراجيون والأهالي والمتطوعون يخوضون معركة شرسة لإنقاذها. إن الرياح الشديدة والتضاريس الوعرة تفاقم من سرعة انتشار النيران، مما يجعل السيطرة عليها أمراً في غاية الصعوبة.
القطع الجائر: أدت سنوات الحرب والأزمات الاقتصادية إلى زيادة أعمال التحطيب غير المشروع؛ إذ لجأ كثيرون إلى قطع الأشجار لتأمين الحطب للتدفئة أو البيع، مما أضر بالتوازن البيئي وقلص المساحات المشجرة.
الزحف العمراني: رغم أن الغابة محمية رسمياً، إلا أن الضغط السكاني والتوسع العمراني على الأطراف يشكل تهديداً مستمراً يقضم تدريجياً من مساحاتها.
التغيرات المناخية: ارتفاع درجات الحرارة وتناقص معدلات الأمطار السنوية يجعلان الغابة أكثر عرضة للجفاف، مما يزيد من احتمالية اندلاع الحرائق ويضعف مناعة الأشجار ضد الآفات والأمراض.
كيف ارتبطت غابات الفرنلق بحياة الأهالي وثقافتهم؟
إذاً كيف يمكن فصل قصة غابات الفرنلق عن قصة الناس الذين عاشوا حولها لأجيال؟ الإجابة ببساطة: لا يمكن. إن هذه الغابات ليست كياناً منعزلاً، بل هي شريك حياة للقرى المحيطة مثل ريحانة والروضة والكبير وغيرها. لقد وفرت لهم الرزق والمأوى والدواء على مر العصور. انظر إلى كيف يجمع الأهالي النباتات الطبية والعطرية في مواسم معينة ليبيعوها في الأسواق المحلية أو للعطارين، مما يشكل مصدر دخل أساسي للكثير من الأسر، خاصة النساء اللواتي يمتلكن معرفة عميقة بأنواع الأعشاب وفوائدها.
كما أن الغابة ساهمت في نشوء صناعات تقليدية مهمة في المنطقة، مثل صناعة صابون الغار الشهير الذي يعتمد على ثمار أشجار الغار المنتشرة في الغابات، ومنتجات غذائية مثل دبس الرمان والمربيات التي تنتجها وحدات تصنيعية محلية مثل “بللوران” التابعة لمديرية الزراعة، والتي توفر فرص عمل للأهالي وتعتمد على منتجات الغابة والمزارع القريبة. وعليه فإن الغابة لم تكن مجرد مصدر للموارد، بل كانت مدرسة تعلم الأجيال احترام الطبيعة وفهم أسرارها؛ إذ كان الآباء والأجداد يصطحبون أطفالهم في جولات لتعليمهم التمييز بين النباتات النافعة والضارة، ومواسم الجني الصحيحة، وطرق الحفاظ على الغابة.
بالمقابل، فإن هذه العلاقة الحميمة ظهرت بوضوح في لحظات الأزمات، فعندما اشتعلت النيران في الغابة، هبّ الأهالي من كل حدب وصوب للمساعدة في إطفائها، حاملين معهم أدوات بسيطة وقلوباً مليئة بالعزيمة، فالغابة بالنسبة لهم ليست مجرد أشجار، بل ذاكرة وهوية ومستقبل لأبنائهم.
ما هي الخطوات المتخذة لإنقاذ وإعادة إحياء الغابات؟
لم تقف سوريا مكتوفة الأيدي أمام تدهور غابات الفرنلق، بل انطلقت دعوات ومبادرات لإطلاق مشروع وطني شامل يهدف إلى إعادة تأهيلها والحفاظ على ما تبقى منها. برأيكم ماذا تتطلب عملية إنقاذ غابة بأكملها؟ الإجابة هي: تعاوناً حقيقياً بين الجهات الرسمية والأهالي والمنظمات البيئية، مدعوماً بأسس علمية ودراسات ميدانية دقيقة. فقد عملت مديرية الزراعة بالتنسيق مع الوحدات الإدارية المحلية على رسم خارطة طريق لحماية الغابة من المزيد من التدهور.
الجدير بالذكر أن الخطوات الأولى تركزت على حماية التربة من الانجراف بعد الحرائق، وذلك من خلال إنشاء حواجز ترابية ومصدات طبيعية تمنع جرف الطبقة السطحية الخصبة عند هطول الأمطار. وبالتالي، بدأت عمليات تشجير تدريجية بأنواع نباتية محلية مناسبة للبيئة، مثل شتلات الصنوبر البروتي والسنديان، مع الحرص على اختيار مواقع الزراعة بعناية لضمان أعلى معدلات النجاح. كما أن هناك توجهاً نحو تعزيز الوعي البيئي بين أفراد المجتمع من خلال حملات توعية وورشات تدريبية تستهدف طلاب المدارس والمزارعين، لتعريفهم بأهمية الغابة وكيفية حمايتها.
من ناحية أخرى، تم التركيز على تشجيع السياحة البيئية المسؤولة التي تحترم خصوصية المكان ولا تضر بالنظام البيئي، وذلك لتوفير مصدر دخل بديل للأهالي يساعدهم على التخلي عن الممارسات الضارة مثل القطع الجائر. إن هذه الجهود، رغم محدودية الإمكانيات المتاحة، تبعث على الأمل بأن غابات الفرنلق قادرة على النهوض من جديد، شريطة أن تتضافر الجهود وتستمر الرعاية.
في الختام، تبقى غابات الفرنلق شاهداً حياً على عظمة الطبيعة السورية وقدرتها الفريدة على الصمود في وجه أشد الظروف قسوة. إنها ليست مجرد محمية أو متنزه، بل هي قلب أخضر ينبض بالحياة، وجزء لا يتجزأ من الهوية الوطنية والذاكرة الجماعية. لقد أثبتت هذه الغابات أنها أكثر من مجموعة أشجار؛ إنها رمز للأمل والتجدد في وطن عانى كثيراً ولا يزال يبحث عن لحظات جمال وسط الركام. إن كل شجرة تنبت من جديد، وكل نبتة تزهر في الربيع، وكل عصفور يعود ليعشش في أغصانها، هو رسالة واضحة: الحياة أقوى من الدمار، والطبيعة قادرة على الانتصار إذا ما وجدت من يحميها ويرعاها.
والآن، بعد أن عرفت قيمة هذا الكنز الأخضر، ألا تشعر بمسؤولية تجاهه؟ ما الذي يمكنك فعله اليوم، ولو كان بسيطاً، للمساهمة في الحفاظ على غابات الفرنلق حية خضراء للأجيال القادمة؟




