سورية الحديثة

حقبة الانقلابات والفوضى في سوريا، صعود العسكريتاريا

هذه المقالة تسلط الضوء على تلك الحقبة الدراماتيكية من التاريخ السوري، حيث تداخلت العوامل الداخلية من فساد وانقسامات سياسية مع التدخلات الخارجية خلال الحرب الباردة، مما شكّل أرضية خصبة لانقلابات متتالية وصعود العسكرتاريا. سنغوص في أعماق تلك الفترة لفهم كيف تأثرت سوريا بالتجاذبات الدولية، وكيف تشكلت ملامح النظام السياسي الحالي من خلال تلك الأحداث المصيرية.

من العام 1949 إلى 1970 ميلادي تعرضت سورية لعشرين انقلاباً ومحاولة انقلابية؛ ففي العام 1949 كان الوضع السياسي في سورية بعد نكبة فلسطين على فوهة بركان؛ حيث ارتفع منسوب التجاذب الداخلي بين العسكر والسياسيين وتبادل الاتهامات حول المسؤولية عن كارثة فلسطين، والفساد وسرقة الأموال العامة، في وقت كانت الفوضى تعم الشارع.

وكانت سورية قد ورثت (القوات الخاصة) من عهد الانتداب الفرنسي، بما فيها ضباطها، لتصبح هذه القوات بالتالي الجيش الرسمي للجمهورية الوليدة. وبلغ عدد أفراد الجيش السوري عام 1949 عشرة آلاف جندي.

الهزيمة في فلسطين

إن هزيمة العرب في فلسطين، والكارثة التي لحقت الشعب الفلسطيني أصابتا الشعوب العربية بالصميم، وساد مزاج من الغضب والشعور بالذل، وظهرت فضيحة في سورية أن مسؤولين حكوميين وسياسيين اختلسوا أمولاً مخصصة لدعم صمود الفلسطينيين؛ ما أطلق المزيد من السخط الشعبي على أداء الحكومة، والمطالبة بمواصلة القتال ضد الصهاينة. كما أن الهوة بين الأقليات المذهبية والإثنية في الجيش والطبقة السياسية في دمشق، خاصة من نخب السنة، ازدادت اتساعاً.

سوريا والحرب الباردة

ومنذ عام 1947 كانت سورية تشعر بوطأة الحرب الباردة بين الجبارين الجديدين؛ الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي؛ حيث سعى الروس إلى تصدير الشوعية ومد نفوذهم إلى المنطقة، في حين أخذ الأميركيون مواقع الإنكليز والفرنسيين. وكانت بريطانيا قد سلمت مفاتيح المنطقة لأميركا في شباط 1947 وأبلغت واشنطن رسمياً أنه لم يعد باستطاعتها تمويل حكومتي اليونان وتركيا لصد الخطر الشوعي الذي يغذيه السوفييت. ومثلت اليونان وتركيا خط الدفاع الأول الذي يهدد في حال سقوطه الشرق الأوسط حيث يقع أكثر من نصف مخزون العالم من النفط. وفي 12 آذار / مارس 1947 بعد أسبوعين من الرسالة البريطانية أعلن الرئيس الأميركي هاري ترومان تقديم مساعدات مالية لليونان وتركيا. وخلال أشهر أصبحت المنطقة العربية وبلدان آسيا المحاذية لجنوب الاتحاد السوفييتي نقاط نفوذ أميركية (اليابان وباكستان، وأفغانستان وإيران وتركيا واليونان، باستثناء الصين). وبرزت حاجة دعم الدول التي تقع خلف هذا الخط الدفاعي، ومنها العراق وسورية ولبنان والأردن والسعودية ومصر وإسرائيل. ولم يقف السوفييت موقف المتفرج؛ فما كادت الحرب العالمية الثانية تنتهي حتى اتجهوا إلى تثبيت مواقعهم في شرق أوروبا ونشر نفوذهم في العالم عبر الأحزاب الشيوعية والعلاقات المباشرة مع الدول الجديدة.

ورويداً بدأ السوفييت يتغلغلون في تركيا واليونان وإيران ومصر واليمن والعراق، ما جعل المنطقة من أكثر الساحات سخونة في الحرب الباردة. ودَعَمَ الأميركيون إسرائيل الناشئة كقاعدة عسكرية متقدمة ضد السوفييت، كما دعموا دولاً عربية موالية للغرب لتمكينها من الصمود في وجه التغلغل الشيوعي. ولجأت موسكو إلى أحزاب محلية تبث دعوى عن تخلف الأنظمة العربية وانحطاطها وتحض على الثورة.

اقرأ أيضاً:  رؤساء سوريا منذ الاستقلال حتى انتصار الثورة السورية

هشاشة الأنظمة العربية

كانت وزارة الخارجية الأميركية تعلم مدى هشاشة الأنظمة العربية، حيث جاء في أحد تقاريرها: (يدعي السياسيون في سورية ولبنان والعراق ومصر أنهم جاؤوا إلى السلطة بالانتخاب، ولكن أي انتخاب يتحدثون عنه إذا كان الفائزون عملاء لقوى أجنبية أو طبقة إقطاعية تفرض نفسها على الناس كي يصوتوا لها بالقوة، أو محتالين يشترون أصوات الناخبين بالمال؟ شعوب هذه البلدان بدؤوا يعون أوضاعهم وباتوا مستعدين للديمقراطية).

وبهذا التوصيف بدأت واشنطن الاتصال بزعماء هذه الدول الذين تبع معظمهم لندن وهم: الملك فاروق في مصر، ونوري السعيد في العراق، وشكري القوتلي في سورية، وبشارة الخوري في لبنان. وكان هدف أميركا إقناع هؤلاء بتحرير عملية الانتخاب، وتطوير المؤسسات الديمقراطية؛ حتى تتحصن الجبهة الداخلية على المستوى الشعبي وتقاوم الشيوعية. وبدأت أميركا بسورية؛ لأنها تقع على حدود تركيا ولأن وضعها الداخلي كان أكثر هشاشة من نظامي مصر والعراق.

وجرت عدة اجتماعات بين الأميركيين والقوتلي، أول رئيس لسورية بعد الاستقلال، ومعاونيه استمرت ستة أشهر. وكان القوتلي زعيماً وطنياً محباً لبلاده إلا أنه لم يفعل شيئاً عملياً لتطوير النظام ولم يفهم أن البلاد كانت على حافة انفجار جماعي. واستنتج الأميركيون أن الوضع في دمشق يتراوح بين ثورة دموية يسلحها السوفييت أو انقلاب عسكري يقوم به ضباط من الأقليات المذهبية والعرقية في الجيش السوري ضد القوتلي.

كل هذه الأمور هيأت الظرف لبدء الانقلابات العسكرية في سورية.

ملخص أسباب حدوث الانقلابات في سوريا

  1. التجاذبات الداخلية: من خلال الصراع بين العسكر والسياسيين حول المسؤولية عن كارثة فلسطين والفساد وسرقة الأموال العامة.
  2. الفوضى في الشارع: انتشرت الفوضى بشكل واسع بعد نكبة فلسطين.
  3. التوتر بين الأقليات والطبقة السياسية: ازدادت الهوة بين الأقليات المذهبية والإثنية في الجيش والطبقة السياسية في دمشق.
  4. الحرب الباردة: تأثير الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي ومحاولات كل طرف لتوسيع نفوذه في المنطقة.
  5. الدعم الخارجي: دعم الولايات المتحدة لإسرائيل ودول عربية موالية للغرب، مقابل دعم السوفييت للأحزاب الشيوعية في المنطقة.
  6. هشاشة الأنظمة العربية: ضعف الأنظمة السياسية العربية وعدم استقرارها، كما وصفتها تقارير وزارة الخارجية الأميركية.
  7. الفساد السياسي: اختلاس المسؤولين الحكوميين والسياسيين للأموال المخصصة لدعم صمود الفلسطينيين.
  8. ضعف القيادة: عدم قدرة شكري القوتلي، أول رئيس لسوريا بعد الاستقلال، على تطوير النظام السياسي واستيعاب التوترات الداخلية.
  9. التغلغل السوفييتي: محاولات السوفييت لنشر نفوذهم في تركيا واليونان وإيران ومصر واليمن والعراق.
  10. المزاج الشعبي: الغضب الشعبي والسخط على أداء الحكومة والمطالبة بمواصلة القتال ضد الصهاينة.
اقرأ أيضاً:  انقلاب حسني الزعيم: جذوره وتأثيراته

في ختام هذه المقالة، نجد أن حقبة الانقلابات في سوريا كانت مرآة للاضطرابات السياسية والاجتماعية التي عصفت بالبلاد، في ظل تجاذبات الحرب الباردة وتأثيراتها العالمية. تلك الفترة شكلت منعطفاً حاسماً في تاريخ سوريا، حيث تداخلت المصالح الداخلية والخارجية لتشكيل مسار سياسي معقد، ما زالت آثاره ملموسة حتى اليوم. استيعاب هذه الحقبة يساعدنا على فهم الجذور العميقة للأحداث التي نراها اليوم، ويؤكد أهمية بناء نظم سياسية قادرة على تحقيق الاستقرار والازدهار لشعوبها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى