سورية الحديثة

الانقلابات العسكرية في سوريا: كيف شكلت تاريخ البلاد الحديث؟

ما الذي جعل سوريا مسرحاً لأكثر من عشرين محاولة انقلابية في ثلاثة عقود؟

تمثل سوريا حالة استثنائية في تاريخ المنطقة العربية من ناحية كثافة التقلبات العسكرية وتأثيرها العميق على مسار الدولة. منذ أن نالت البلاد استقلالها من الانتداب الفرنسي، شهدت موجة متلاحقة من التدخلات العسكرية في الحياة السياسية، جعلت من ثكنات الجيش مصدر القرار السياسي بدلاً من البرلمان أو صناديق الاقتراع.

إن فهم الانقلابات العسكرية في سوريا يمثل مفتاحاً لفهم الواقع السوري الراهن بكل تعقيداته. لقد بدأت هذه الظاهرة في أواخر الأربعينيات واستمرت حتى مطلع السبعينيات، تاركة بصماتها العميقة على البنية السياسية والاجتماعية للبلاد. كانت كل محاولة انقلابية، سواء نجحت أم فشلت، تزيد من حدة عدم الاستقرار وترسخ ثقافة العنف السياسي. من جهة ثانية، أدت هذه الانقلابات المتكررة إلى تآكل مؤسسات الدولة المدنية وتحويل المؤسسة العسكرية إلى أداة للصراع على السلطة بدلاً من كونها درعاً للوطن. وبالتالي، فإن دراسة هذه المرحلة ليست مجرد استعراض تاريخي، بل هي محاولة لفهم جذور الأزمة السورية المعاصرة.

لماذا كانت سوريا بيئة خصبة للانقلابات العسكرية؟

لقد اجتمعت عدة عوامل جعلت من سوريا أرضاً خصبة لنمو ظاهرة الانقلابات العسكرية؛ إذ كانت الدولة الوليدة تعاني من ضعف بنيوي عميق في مؤسساتها السياسية والإدارية. فبعد عقود من الحكم الاستعماري الفرنسي الذي طبق سياسة “فرّق تسُد”، ورثت سوريا المستقلة مجتمعاً ممزقاً بين ولاءات طائفية وعشائرية وجهوية متنافسة، دون وجود هوية وطنية جامعة قوية. بالإضافة إلى ذلك، كانت الطبقة السياسية التقليدية، المكونة من ملاك الأراضي وكبار التجار، منغمسة في صراعات فئوية ضيقة ولم تنجح في بناء مؤسسات ديمقراطية راسخة أو تحقيق إصلاحات اجتماعية واقتصادية تلبي تطلعات الفئات الشعبية.

على النقيض من ذلك، كان الجيش السوري الناشئ يشهد تحولاً اجتماعياً مهماً. فقد سمحت سياسات التجنيد والترقية بدخول أبناء الريف والطبقات الوسطى والدنيا، وخاصة من الأقليات الدينية، إلى صفوف الضباط. هؤلاء الضباط الشباب، الذين تلقوا تعليماً حديثاً وتأثروا بالأفكار القومية والاشتراكية، نظروا إلى أنفسهم كحماة للأمة ورأوا في الطبقة السياسية التقليدية عائقاً أمام التقدم. كما أن هزيمة عام 1948 في فلسطين شكلت صدمة نفسية عميقة للعسكريين السوريين؛ إذ ألقوا باللوم على السياسيين وضعف الدولة، مما عزز لديهم القناعة بضرورة التدخل المباشر في السياسة لـ”إنقاذ” البلاد. الجدير بالذكر أن ضعف الولاء المؤسسي داخل الجيش وانتشار الولاءات الشخصية والأيديولوجية سهّل تشكيل تحالفات سرية بين الضباط لتنفيذ الانقلابات.

ما هي المحطة الأولى في مسلسل الانقلابات السورية؟

في فجر الثلاثين من مارس 1949، استيقظ السوريون على واقع جديد تماماً؛ إذ قام العقيد حسني الزعيم، قائد الجيش آنذاك، بأول انقلاب عسكري في تاريخ سوريا الحديث، مطيحاً بالرئيس المنتخب شكري القوتلي. كان الزعيم شخصية طموحة ومثيرة للجدل، تأثر بنموذج مصطفى كمال أتاتورك في تركيا وسعى لتطبيق نموذج مشابه من التحديث القسري. لقد وعد بالإصلاحات الجذرية ومكافحة الفساد، وبدأ بتنفيذ بعض المشاريع التنموية وإجراء إصلاحات قانونية، بما في ذلك منح المرأة حق التصويت لأول مرة. بينما كان يقدم نفسه كمنقذ للبلاد من الفوضى السياسية وضعف الإدارة، فإن حكمه اتسم بالفردية والاستبداد السريع.

ومع ذلك، فإن فترة حكم الزعيم لم تستمر سوى 137 يوماً فقط. فما هي الأسباب التي أدت إلى سقوطه السريع؟ لقد أثارت سياساته الخارجية، وخاصة مفاوضاته مع إسرائيل حول اتفاقية سلام واستعداده لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، غضباً واسعاً. بالإضافة إلى ذلك، أدى تفرده بالسلطة وتجاهله للقوى السياسية والعسكرية الأخرى إلى تكوين جبهة معارضة واسعة ضده. وفي 14 أغسطس 1949، قاد العقيد سامي الحناوي انقلاباً دموياً أطاح بالزعيم وأعدمه هو ورئيس وزرائه محسن البرازي. هذا الحدث الدموي رسخ سابقة خطيرة في الانقلابات العسكرية في سوريا، وهي أن التغيير يمكن أن يكون عنيفاً وقاتلاً، مما زاد من حدة الاستقطاب والخوف في الأوساط السياسية والعسكرية.

اقرأ أيضاً:  الثورة السورية ضد بشار الأسد: نضال من أجل الحرية

كيف ساهم أديب الشيشكلي في ترسيخ الحكم العسكري؟

لم يكن انقلاب سامي الحناوي سوى محطة عابرة في مسلسل الانقلابات العسكرية في سوريا، فقد كان الحناوي أقرب إلى كونه وسيطاً يميل للحكم المدني. لكن القوة الحقيقية كانت في يد العقيد أديب الشيشكلي، الذي كان نائب رئيس الأركان والرجل القوي في الجيش. وعندما رأى الشيشكلي أن الحناوي يخطط لتحقيق وحدة مع العراق الهاشمي، وهو ما عارضته أطراف عديدة داخلية وخارجية، تحرك في 19 ديسمبر 1949 وقام بانقلاب “ناعم” أزاح فيه الحناوي دون إراقة دماء. في البداية، فضل الشيشكلي الحكم من وراء الكواليس، تاركاً الواجهة السياسية لحكومات مدنية متعاقبة، لكنه كان يمسك بخيوط السلطة الفعلية عبر سيطرته على الجيش.

إلا أن صبر الشيشكلي لم يدم طويلاً؛ إذ قام في 29 نوفمبر 1951 بانقلاب ثانٍ أكثر صراحة، حيث حل البرلمان وعطل الدستور وحل جميع الأحزاب السياسية، معلناً حكماً عسكرياً مباشراً. هذا وقد حاول الشيشكلي بناء نظام رئاسي قوي على غرار النموذج التركي الكمالي، فأنشأ حزباً سياسياً موالياً له أسماه “حركة التحرر العربي” ليكون الواجهة الشرعية لحكمه. كما سعى لإصدار دستور جديد عام 1953 يكرس سلطاته الواسعة كرئيس للجمهورية. بينما نجح في تحقيق قدر من الاستقرار وتنفيذ بعض المشاريع التنموية، فإن سياساته القمعية ضد المعارضة وتفرده بالقرار أثارا استياءً واسعاً. وفي فبراير 1954، اندلعت انتفاضة عسكرية شاملة ضده في حلب وحماة ودير الزور، اضطرته للفرار إلى المنفى، لتعود سوريا مؤقتاً إلى نظام برلماني، لكن مع جيش تغلغلت فيه الأحزاب الأيديولوجية، خاصة حزب البعث والتيار الناصري، مما أنذر بجولات جديدة من الصراع.

ما الدور الذي لعبته الوحدة مع مصر في تاريخ الانقلابات؟

شكلت فترة الوحدة السورية-المصرية (1958-1961) تحت اسم “الجمهورية العربية المتحدة” محاولة طموحة لإنهاء حالة عدم الاستقرار في سوريا من خلال الاندماج مع مصر الناصرية. لقد كانت الوحدة نتيجة لضغوط من القوى القومية في سوريا، وخاصة حزب البعث والتيار الناصري داخل الجيش، الذين رأوا فيها طوق نجاة من هيمنة الشيوعيين وحلاً للفوضى السياسية المستمرة. فرضت مصر بقيادة جمال عبد الناصر شروطاً قاسية، أبرزها حل جميع الأحزاب السياسية السورية بما فيها حزب البعث الذي دعا للوحدة، ودمج الجيش السوري في القيادة المصرية، وتطبيق النموذج المصري المركزي في الحكم. بالمقابل، شعر السوريون سريعاً بأنهم يُعاملون كإقليم تابع وليس كشريك متساوٍ.

تراكمت مظاهر الاستياء السوري من الوحدة على مر السنين؛ إذ شعرت النخبة السياسية السورية التقليدية بالتهميش، وتضرر رجال الأعمال من سياسات التأميم الاشتراكية، وامتعض الضباط السوريون من الهيمنة المصرية على القيادة العسكرية. وفي 28 سبتمبر 1961، قامت مجموعة من الضباط السوريين بانقلاب عُرف بـ”انقلاب الانفصال”، أعادوا من خلاله سوريا إلى كيان مستقل. كان قادة الانفصال في الأغلب من الضباط المحافظين والوطنيين السوريين الذين رفضوا الهيمنة المصرية، وقد دعموا في البداية العودة إلى النظام البرلماني والتعددية السياسية. لكن فترة الانفصال (1961-1963) اتسمت بضعف سياسي شديد وعدم استقرار، مع سيطرة النخبة التقليدية القديمة التي فقدت شرعيتها في عيون قطاعات واسعة من الشعب والجيش. هذا الضعف هيأ الأرضية لانقلاب جذري جديد غيّر وجه سوريا إلى الأبد.

كيف استولى حزب البعث على السلطة عام 1963؟

في الثامن من مارس 1963، وقع الحدث الأكثر تأثيراً في تاريخ الانقلابات العسكرية في سوريا الحديث؛ إذ نفذت مجموعة من الضباط البعثيين والناصريين والمستقلين انقلاباً عسكرياً سريعاً وحاسماً أطاح بحكومة الانفصال. عُرف هذا الانقلاب رسمياً باسم “ثورة الثامن من آذار”، وقد قادته “اللجنة العسكرية” السرية لحزب البعث التي تشكلت في مصر أثناء فترة الوحدة، وضمت ضباطاً طموحين مثل محمد عمران، وصلاح جديد، وحافظ الأسد، وعبد الكريم الجندي. كانت هذه اللجنة قد استغلت سنوات الوحدة والانفصال لبناء شبكة تنظيمية محكمة داخل الجيش، مستفيدة من التركيبة الطائفية للجيش حيث كان عدد كبير من الضباط من الأقليات الدينية، وخاصة العلويين والإسماعيليين والدروز.

اقرأ أيضاً:  رؤساء سوريا منذ الاستقلال حتى انتصار الثورة السورية

رغم أن الانقلاب كان بمشاركة ناصريين ومستقلين، فإن البعثيين سرعان ما أحكموا قبضتهم على السلطة من خلال سلسلة من عمليات التطهير والانقلابات الصغيرة داخل الجيش. فبراير 1964 شهد إقصاء معظم الضباط الناصريين من مراكز القيادة. ومما زاد من تعقيد المشهد أن حزب البعث نفسه بدأ ينقسم بين جناحين: الجناح المدني بقيادة المؤسسين التاريخيين مثل ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، والجناح العسكري الراديكالي بقيادة اللجنة العسكرية التي كانت تتبنى خطاباً اشتراكياً أكثر تطرفاً وترى في القيادة القديمة رموزاً برجوازية منفصلة عن الواقع. هذا الانقسام كان يحمل في طياته بذور الصراع الدموي القادم الذي سيعيد تعريف طبيعة السلطة في سوريا مرة أخرى.

ما حقيقة الانقلاب الراديكالي عام 1966؟

بلغ الصراع داخل حزب البعث الحاكم ذروته في 23 فبراير 1966، عندما قام الجناح العسكري الراديكالي بقيادة صلاح جديد وحافظ الأسد بانقلاب دموي ضد القيادة القومية للحزب. كان هذا الانقلاب من أعنف الانقلابات العسكرية في سوريا، فقد شهد معارك حقيقية في دمشق بين القوات الموالية للطرفين، وأسفر عن سقوط عشرات القتلى. انتصر الجناح الراديكالي بفضل سيطرته على الوحدات العسكرية الرئيسة، وخاصة القوات الجوية التي كان يقودها حافظ الأسد. عقب الانقلاب، تم اعتقال أو نفي جميع قادة القيادة القومية، بما فيهم ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار ومنيف الرزاز، منهياً بذلك نفوذ المؤسسين التاريخيين للبعث. فهل كان هذا مجرد صراع على السلطة؟

الإجابة هي أنه كان أكثر من ذلك بكثير. لقد كان صراعاً أيديولوجياً واجتماعياً أيضاً؛ إذ مثّل الجناح الراديكالي الجديد تياراً أكثر يسارية وشعبوية، يؤمن بالاشتراكية الماركسية ويسعى لإجراء تحولات جذرية في البنية الاقتصادية والاجتماعية. برز صلاح جديد كرجل سوريا القوي الجديد بصفته الأمين العام المساعد للحزب، بينما تولى حافظ الأسد منصب وزير الدفاع، وأمين حافظ رئاسة الجمهورية الشكلية. أبرز إنجازات هذه المرحلة كانت:

  • تطبيق سياسات تأميم واسعة شملت الصناعة والتجارة والبنوك
  • إجراء إصلاح زراعي راديكالي أعاد توزيع الأراضي
  • تبني سياسة خارجية متشددة ومعادية للإمبريالية والرجعية العربية
  • تعزيز العلاقات مع الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي

لكن هذه السياسات المتطرفة، رغم شعبيتها بين فئات معينة، أدت إلى عزلة سوريا إقليمياً ودولياً، وخلقت توترات اجتماعية واقتصادية داخلية. كما أن هزيمة يونيو 1967 القاسية أمام إسرائيل، والتي فقدت فيها سوريا هضبة الجولان، ألقت بظلال ثقيلة على شرعية النظام وفتحت الباب لجولة جديدة من الصراع الداخلي على السلطة.

كيف أنهى حافظ الأسد عصر الانقلابات بانقلابه الأخير؟

منذ عام 1966، بدأ صراع خفي ثم علني بين القطبين الرئيسَين في نظام الحكم الجديد: صلاح جديد الذي يسيطر على الحزب والتنظيم المدني، وحافظ الأسد الذي يسيطر على الجيش والقوات الجوية. كان جديد يمثل الخط الأيديولوجي الصارم واليساري المتشدد، بينما كان الأسد أكثر براغماتية ومرونة في التعامل مع الواقع السياسي. تفاقم الخلاف بين الرجلين حول عدة قضايا، أبرزها الموقف من أحداث أيلول الأسود في الأردن عام 1970، حيث أيد جديد التدخل العسكري لصالح الفدائيين الفلسطينيين، بينما عارضه الأسد وسحب الغطاء الجوي عن القوات السورية، مما أدى إلى فشل التدخل. هذا الخلاف كان القشة التي قصمت ظهر البعير.

في السادس عشر من نوفمبر 1970، تحرك حافظ الأسد مستغلاً سيطرته المطلقة على الجيش والقوات الجوية؛ إذ نفذ ما أسماه “الحركة التصحيحية” (Corrective Movement)، وهي في جوهرها انقلاب عسكري ناعم ضد صلاح جديد ورفاقه في قيادة الحزب. اعتُقل جديد ومعظم أعضاء القيادة القطرية والقومية للحزب، وسُجنوا لعقود طويلة حتى وفاتهم. أما حافظ الأسد، فقد أصبح الرئيس الفعلي لسوريا، وتم انتخابه رسمياً رئيساً للجمهورية في مارس 1971 باستفتاء شعبي حصل فيه على نسبة تفوق 99%. لقد كانت الحركة التصحيحية نقطة فاصلة في تاريخ الانقلابات العسكرية في سوريا للأسباب التالية:

  • أنهت حالة الصراع الداخلي المستمر داخل قيادة البعث والدولة
  • وحدت مركز القرار في يد شخص واحد لأول مرة منذ الاستقلال
  • أسست لنظام حكم مستقر ومركزي استمر لعقود طويلة
  • وضعت نهاية عملية لعصر الانقلابات العسكرية المتكررة في سوريا
اقرأ أيضاً:  حقبة الانقلابات والفوضى في سوريا، صعود العسكريتاريا

وعليه فإن حركة الأسد كانت آخر انقلاب ناجح في تاريخ سوريا الحديث، فقد نجح في بناء نظام أمني ومؤسساتي محكم منع أي محاولة انقلابية لاحقة. استخدم الأسد مزيجاً من القمع الأمني، والولاءات الطائفية والعشائرية، وتوزيع المنافع، لضمان ولاء المؤسسة العسكرية. كما أنه أنشأ أجهزة استخبارات متعددة ومتنافسة تراقب بعضها وتراقب الجيش، مما جعل أي تحرك انقلابي شبه مستحيل.

ما الآثار البعيدة المدى للانقلابات العسكرية على سوريا؟

إن الإرث الذي خلفته عقود من الانقلابات العسكرية في سوريا كان مدمراً للبنية السياسية والاجتماعية للبلاد. فقد أدت هذه الظاهرة إلى قتل أي فرصة لتطور ديمقراطي طبيعي وسلمي. البرلمانات المنتخبة حُلّت مراراً، والأحزاب السياسية حُظرت أو أُخضعت، والدساتير عُطلت وعُدلت بما يخدم الحاكم العسكري في كل مرحلة. كما أن ثقافة العنف السياسي كوسيلة لحسم الخلافات ترسخت بعمق في الوعي الجماعي؛ إذ أصبح السلاح، وليس الحوار أو صندوق الاقتراع، هو الحكم النهائي في الصراعات. هذا خلق نمطاً من عدم الثقة المتبادلة بين مختلف مكونات المجتمع السوري، وجعل الولاءات الضيقة (الطائفية، العشائرية، الجهوية) تتقدم على الولاء الوطني.

من ناحية أخرى، أدت هيمنة المؤسسة العسكرية على الحياة السياسية إلى تحويل سوريا إلى ما يمكن وصفه بـ”الدولة الأمنية” (Security State). فبدلاً من أن يكون الجيش أداة لحماية الوطن من الأخطار الخارجية، أصبح أداة لحماية النظام من شعبه. تضخمت الأجهزة الأمنية والاستخباراتية وتغلغلت في كل جانب من جوانح الحياة، مراقبةً ومحاسبةً ومعاقبةً. انظر إلى النتيجة: مجتمع مشلول سياسياً، غير قادر على التعبير عن رأيه أو المشاركة في صنع قراراته، يعيش تحت وطأة الخوف المستمر. وبالتالي، تراكم الاحتقان الاجتماعي والسياسي على مدى عقود، دون وجود قنوات شرعية وسلمية لتصريفه، حتى انفجر بعنف في عام 2011، مما يؤكد أن الاستقرار القائم على القمع ليس سوى هدوء ما قبل العاصفة.

الخاتمة

لقد كانت الانقلابات العسكرية في سوريا ظاهرة مركبة نتجت عن تفاعل عوامل داخلية وخارجية، من ضعف بنيوي في مؤسسات الدولة الوليدة، إلى طموحات شخصية لضباط عسكريين، إلى صراعات أيديولوجية حادة، وصولاً إلى تدخلات إقليمية ودولية. بدأت هذه الظاهرة عام 1949 مع انقلاب حسني الزعيم، واستمرت عبر سلسلة طويلة من المحاولات الناجحة والفاشلة، حتى انتهت فعلياً عام 1970 بوصول حافظ الأسد إلى السلطة عبر الحركة التصحيحية. خلال هذه العقود الثلاثة، شهدت سوريا أكثر من عشرين محاولة انقلابية، نجح منها حوالي ثمانية انقلابات رئيسة غيرت وجه الحكم.

إن فهم هذا التاريخ المضطرب ضروري لفهم الواقع السوري المعاصر بكل تعقيداته ومآسيه. فالنظام السياسي الذي تشكّل على أنقاض تلك الانقلابات المتتالية كان نظاماً سلطوياً قمعياً، رسخ حكم الفرد والحزب الواحد، وحوّل المؤسسة العسكرية والأمنية إلى أداة لقمع المجتمع بدلاً من حمايته. ومما لا شك فيه أن هذا الإرث الثقيل من الحكم الاستبدادي كان أحد الأسباب الجذرية للأزمة العميقة التي انفجرت في سوريا منذ عام 2011 ولا تزال تداعياتها مستمرة حتى اليوم.

بعد أكثر من نصف قرن من انتهاء عصر الانقلابات، وبعد عقد من الحرب المدمرة، هل تستطيع سوريا في المستقبل بناء نظام سياسي مدني ديمقراطي حقيقي يقطع نهائياً مع تاريخ الانقلابات ويضمن عدم عودة العسكر إلى التدخل في الحياة السياسية؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى