ثقافة

فترة ما قبل الصحافة في سورية

يعد فجر الصحافة في سوريا حديثاً نسبياً؛ إذ يرجع إلى بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وقبل هذا التاريخ كانت مبادرات ومحاولات نسميها أعمالاً صحفية في وقتنا الحاضر؛ ذلك لأنها تركزت وارتبطت في أسسها بأساليب الحياة الاجتماعية السورية.

فقد ساعدت الظروف السياسية والأحداث الاجتماعية في سوريا على وجود اتصال دائم مستمر بين الناس؛ كالجامع وأوقات الصلاة الخمسة وخصوصاً صلاة الجمعة، والاتصال برجال الدين والاجتماعات التي تجري في المقاهي العامة والأسواق المختلفة. وكذلك اجتماعات المنتديات الأخرى، هذا بالإضافة إلى أن التقاليد العربية السورية من كرم الضيافة إلى حسن الجوار خلقت الفرصة المناسبة لكل الطبقات للاختلاط والمشاركة فيما بينها عن قرب بود وبروح مخلصة.

ثم إن حالة القبائل العربية وتجوالها في مناطق البلاد العربية والصحارى المتصلة بها وأطراف القرى ومشارفها والاتصال بالناس يومياً سهلت نقل أخبارهم بعضهم للبعض الآخر؛ لأنها تعتمد في رحيلها على الاتصال بالبادية ومشارف البلاد المسكونة، وكانت في حقيقة أمرها تعتبر بمثابة صحافة سيارة من البلاد وإلى البلاد، ومن الصحراء إلى البلاد الآهلة بالسكان؛ تنقل أخبارهم في أثناء رحيلها وتجوالها بقصد التجارة وشراء ما تحتاج إليه، ويمكننا أن نعتبرها بداية لفكرة وكالات أنباء متنقلة عبر الصحراء والبلاد، تنقل الأخبار إلى أصحاب الشأن المهتمين بها، وكانت هذه الأنباء تتغير حسب فصول السنة بالنسبة لطبيعة تنقلاتها في الأماكن التابعة لمعيشتهم وسياستهم الداخلية، ونتيجة لذلك أصبح ما يعرفه أو ما يفكر فيه الفرد من السهل أن يكون معرفة عامة، ولعل حرية الاجتماعات والاتصال بالناس بعضهم بالبعض الآخر تشرح لنا سبب الانتفاضات القوية الجبارة وفعلها المؤثر العظيم في التاريخ السوري، مع أن الأفراد أنفسهم كانوا ذوي طبع هادئ مسالم. وفي المناسبات الهامة عندما كانت تقصد الحكومة إذاعة خبر معين ونشره على مسامع الجماهير كانت تلجأ إلى واسطة لتعلن بها الجمهور، وكانت وسيلة نشر هذه الأخبار رجلاً يسمى (المنادي) يعمل في داخل البلاد السورية من أقصاها إلى أقصاها. وكان من الطبيعي أن يكون لكل بلد عدة منادين يوزعون على الأحياء والأسواق في البلاد وفي المدن الساحلية، واستمرت هذه الوسيلة في بعض المدن النائية عن العواصم بالنسبة لبعض السكان العاديين حتى عهد قريب جداً وإلى منتصف القرن العشرين، بالرغم من وجود صحافة شعبية وصحافة رسمية في كل بلد وفي كل مدينة سورية.

اقرأ أيضاً:  محمد علي العابد: أول رئيس جمهورية لسورية

ولهذا فقد كانت قوانين الدولة السورية ونظمها أو بالأحرى الولايات السورية التي كانت تحت الحكم العثماني تذاع بواسطة المنادين العموميين في الأسواق وفي الحارات الضيقة، وقد استخدمت أيضاً هذه الطريقة في نشر الأخبار العسكرية، ومواعيد وصول الحاكم الجديد للولاية، وتاريخ استلامه لسلطاته العامة، وكانت تذاع أيضاً المواعيد والتواريخ المحددة للأعياد العربية، هذا بالإضافة إلى الإعلان عن وفاة رجل عظيم الشأن، أو وصول السفن البحرية ورحيلها من الموانئ السورية، وكان عمل المنادي العام في الماضي مهماً كوكالة للإعلان في أيامنا هذهـ فقد كان عليه أن يعلن عن دخل الحكومة من الزراعة، وعن دخلها من الأدوات التي تباع أو أجورها، وعن الأشياء المفقودة، والأشخاص المفقودين والضالين، أو في الطرق المقفرة من السكان، أو يعلن عن المجرمين الفارين، وعن الاجتماعات التي ستعقد في المدن وتحديد مواعيدها ومكانها والذين سيحضرونها. ولا زالت هذه الوسيلة أيضاً موجودة حتى بعد انتشار الصحف ولكن بشيء من التخصص في إذاعة الخبر ونشره.

فإذا أرادت الحكومة أن تعلن قوانينها على طوائف غير المسلمين تعمد إلى إعلان رؤساء هذه الطوائف والاستغناء عن المنادي. فقد كانت الحكومات تهتم برؤساء الطوائف اهتماماً بالغاً لإذاعة أخبارها الرسمية الخاصة بالطوائف نفسها. فتوصلت الحكومة بذلك إلى مبدأ المسؤولية الجماعية وجعلت الإعلان عن أخبارها الرسمية الخاصة بالطوائف وإذاعتها من حق رؤساء الطوائف المعنية بالأمر ذات الاختصاص. وكانت عملية نشر الأخبار وصياغتها من اختصاص الوعاظ ورجال الدين وبخاصة في شهور رجب وشعبان ورمضان، وكانت العادة هي أن يتجول طلاب العلم والمدارس الدينية وعديد من أعضاء الهيئات الدينية من مكان لآخر، يعطون الناس ويرشدونهم بطرقهم الدينية الخاصة، وأظن أنهم لم يستطيعوا أن يكونوا نظاماً مدرباً تدريباً حسناً لنشر الأخبار العامة والأنباء الرسمية وإيجاد نوع مما نسميه في وقتنا الحاضر بالأخبار المتنوعة أو بإيجاد نوع من الأخبار والإعلام لتكوين رأي عام مستنير يتجه بكليته نحو هدف معين. وكل ما كان يهمهم هو نشر الأخبار المؤقتة تحت ظل رئيس دولة أو سلطان أو والي ولاية من الولايات.

وقد كان من الممكن أن يتطور أسلوب هؤلاء الوعاظ والمبشرين لتكوين رأي عام سوري مستنير، إلى جانب ما كانوا يهتمون به من النواحي الدينية، وكان أشهر هؤلاء الوعاظ الشيخ عبد الغني النابلسي (1641 – 1731) الذي اشتهر بتجواله ورحلاته إلى بيت المقدس والحجاز وطرابلس الشام.

اقرأ أيضاً:  تأثير الثقافة السورية على الدول المجاورة

وإنه لجميل أن نذكر هنا للمؤرخ الرسمي التركي (نعيمة) الذي عاصر قسماً من الفترة التي عاش فيها الشيخ عبد الغني النابلسي فقرة يدافع بها عن مقاييس يفترضها لتطوير شامل للأحوال في الإمبراطورية العثمانية وفي الولايات العربية مستفيداً من الوعاظ ورجال العلم إذ يقول: (حتى أصحاب المنازل الجليلة أخذوا في الانحطاط، لذلك يجب تكريس الانتباه للنهوض بالرجال قبل كل شيء، كما يجب تشجيع رجال الفكر والدين ورجال النشاط العلمي، إذ يجب أن تظل روح الشعوب موقدة ملتهبة، ومن الضروري لهذا الغرض إيفاد وعاظ قادرين يستقبلهم الناس ليحثوهم في أوقات السلم على العمل والهدوء والنظام، كما يجب أن يدعوهم في أوقات الحرب ويسردوا عليهم أعمال أجدادهم بأسلوب حماسي وليحكوا لهم قصصاً أخرى مناسبة تتصل بأمجادهم).

وهكذا فقد كان أمل المؤلف كما نفهم في عصرنا الحاضر أن يكون هؤلاء الوعاظ بمثابة صحافة سيارة تهيئ الرأي العام في زمن السلم، وفي زمن الحرب؛ حتى يكون الشعب دائم الاتصال بأخباره الحاضرة وبتاريخ أجداده عن طريق القصة.

ولم ينس هذا المؤرخ أهمية الكلمة المكتوبة؛ فهو يحث العاقل والمتعلم على الكتابة بغرض تنوير الناس، وكان ينصح الحكومة ألا تغض النظر أبداً عن أي مجهود من هذا النوع بل تكافئ هذا المجهود بما يستحق.

التدوين ونسخ الكتب

وليس من السهل اختبار درجة تأثير الكلمة المنطوقة في عهد ما قبل الصحافة السورية، ولكن مما لا شك فيه أن الكلمة المكتوبة كان لها اعتبارها إذ كان يعد أي شيء مكتوب مقدساً، كما كان نساخ كل طبقة من الكتابة يُحتَرمون لدرجة كبيرة، وذلك راجع إلى أن الكتب المقدسة كانت أول الكتب من حيث التدوين والكتابة خشية ضياعها، كما أنها تُذَكِّرُ الناس بواقعة جمع القرآن الكريم زمن الخليفة الثالث عثمان بن عفان وطلبه تدوين القرآن الكريم خوفاً من الضياع بعد أن أخذت الألسنة تلحن في نطق القرآن بسبب الفتح واختلاط العرب بغيرهم.

اقرأ أيضاً:  الأهمية الثقافية للبادية السورية

وقد ذكر أنجربوسبك (1522 -1592) الهولندي الذي زار القسطنطينية سنة 1555 كرسول لملك هنغاريا: (أن كل فرد يعتني عناية شديدة بالتقاط أية قطعة ورق من على الأرض حتى لا يطأها أحد بقدمه).

وقد استمرت هذه العادة منذ التاريخ القديم حتى عصرنا الحاضر، إذ أننا نشاهد كثيراً من الناس في شوارع سوريا ومدنها يلتقطون الورق من على الأرض سواء أكانت أوراقاً عادية أم أوراق صحف أم سواها؛ خشية أن تداس بالأقدام، ووضعها في مكان عبيد عن الطريق.

وكان يعتبر عملاً مقدساً وجليلاً أن يبني الإنسان مكتبة عامة أو مكاناً يجمع فيه الكتب لنشر المعرفة بين الماس إلى جانب نسخ الكتب وكتابتها. ويقول الدكتور أحمد جاب الله شلبي عن النساخ: (… ونختم القول عن النساخ بعبارة تدعو إلى الدهشة والإعجاب، فلقد روي أنه كان بمكتبة بني عمار بطرابلس الشام مئة وثمانون ناسخاً، وكان هؤلاء النساخ يتبادلون العمل ليلاً ونهاراً بحيث لا ينقطع النسخ، ولم يقل عدد الذين يؤدون عملهم فعلاً عن ثلاثين ناسخاً في أية ساعة من ساعات النهار والليل). وقد استمر نشاط النساخ حتى منتصف القرن التاسع عشر يتعيشون من نسخ الكتب قبل إنشاء الطباعة وتأسيسها إلى أن صدرت بوادر الطبع، وبذلك أوجدت أزمة للنساخ وعارضوها معارضة شديدة خوفاً على مستقبل عملهم الذي يعتبرونه عملاً مقدساً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى