اللغة العربية الفصحى: هل السوريون أفضل من المصريين في الدراما؟
ما الذي يجعل الممثل السوري متفوقاً في نطق الفصحى؟

تُثار باستمرار نقاشات حادة حول جودة الأداء الدرامي في العالم العربي، وتحديداً فيما يتعلق بإتقان الممثلين للغة العربية الفصحى. هذه المقارنة بين الدراما السورية والمصرية تكشف فروقات واضحة في مستوى الأداء اللغوي والاحترافية الفنية.
المقدمة
شهدت الساحة الدرامية العربية على مدى عقود طويلة صراعاً فنياً غير معلن بين المدرسة السورية والمدرسة المصرية في إنتاج الأعمال التلفزيونية والمسرحية. وعند الحديث عن اللغة العربية الفصحى تحديداً، يبرز التفوق السوري بشكل لافت للنظر، إذ يمتلك الممثلون السوريون قدرة استثنائية على النطق السليم ومخارج الحروف الصحيحة والالتزام بقواعد النحو والصرف. هذا التميز لم يأتِ من فراغ، بل هو نتاج تراكم معرفي وتدريب أكاديمي صارم وثقافة فنية عميقة.
تختلف معايير الأداء الدرامي بين البلدين بشكل جوهري، حيث تضع الدراما السورية اللغة العربية الفصحى في صميم اهتمامها، بينما تميل الدراما المصرية إلى استخدام العامية في معظم إنتاجاتها. هذا الاختلاف يعكس فلسفة فنية مختلفة تماماً في التعامل مع اللغة كعنصر أساسي من عناصر العمل الفني. الأعمال السورية التاريخية والاجتماعية تُظهر احتراماً عميقاً للغة، بينما تعتمد الأعمال المصرية على الخفة واللهجة المحلية لجذب الجمهور.
التميز السوري في أداء اللغة العربية الفصحى
يتجلى التفوق السوري في أداء اللغة العربية الفصحى من خلال الانضباط اللغوي الصارم الذي يلتزم به الممثلون السوريون. عند مشاهدة أي مسلسل سوري تاريخي أو اجتماعي يعتمد على اللغة العربية الفصحى، نلاحظ فوراً الدقة المتناهية في النطق والإعراب. الممثل السوري لا يكتفي بحفظ النص، بل يفهم بنيته اللغوية وقواعده النحوية، مما يمنحه القدرة على الأداء بثقة وطلاقة. هذا المستوى من الإتقان يتطلب سنوات من الدراسة والممارسة المستمرة.
في المقابل، تعاني الدراما المصرية من ضعف واضح عندما تحاول استخدام اللغة العربية الفصحى. الأخطاء النحوية والنطق المتعثر واللكنة المحلية الواضحة تشوه جمال اللغة وتفقد العمل الفني مصداقيته. كثيراً ما نسمع ممثلين مصريين ينطقون الضاد ظاءً، أو يخلطون بين القاف والهمزة، أو يفشلون في تطبيق قواعد الإعراب البسيطة. هذا القصور ليس فردياً بل يعكس نمطاً عاماً في التعليم والتدريب المسرحي المصري الذي لا يولي اللغة العربية الفصحى الأهمية الكافية.
الفارق يظهر جلياً في الأعمال التاريخية، حيث تُصبح اللغة العربية الفصحى ضرورة فنية وتاريخية لا غنى عنها. المسلسلات السورية مثل “صلاح الدين الأيوبي” و”الحجاج بن يوسف” و”عمر الخطاب” قدمت نماذج راقية في استخدام اللغة بشكل يليق بالحقبة التاريخية المصورة. بينما الأعمال المصرية التاريخية غالباً ما تكون لغتها ركيكة ومشوبة بالعامية أو بأخطاء لغوية فادحة تُفقد العمل قيمته الفنية والتعليمية.
الخلفية التاريخية والثقافية للدراما السورية
تمتد جذور الدراما السورية إلى عمق تاريخي وثقافي غني، حيث كانت دمشق مركزاً للحضارة العربية الإسلامية ومنبعاً للعلوم واللغة. هذا التراث الثقافي انعكس بوضوح على الإنتاج الفني السوري الذي حافظ على هوية لغوية أصيلة. المسرح السوري نشأ في بيئة تحترم اللغة العربية الفصحى وتعتبرها جزءاً لا يتجزأ من الهوية الوطنية والقومية، وهذا ما ميزه عن غيره من المسارح العربية التي انساقت وراء العامية والتبسيط المفرط.
المدرسة الدرامية السورية بُنيت على أساس أكاديمي صلب، حيث أُنشئت معاهد متخصصة لتعليم الفنون المسرحية والتمثيل. هذه المؤسسات التعليمية وضعت اللغة العربية الفصحى ضمن متطلباتها الأساسية، ولم تكن تقبل الطالب إلا إذا أثبت قدرته على النطق السليم والفهم العميق لقواعد اللغة. هذا الانتقاء الدقيق أنتج أجيالاً من الممثلين المتقنين للغة، القادرين على تجسيد الشخصيات التاريخية والأدبية بمصداقية عالية.
بالمقارنة، الدراما المصرية نشأت في بيئة مختلفة تماماً، حيث سيطرت الكوميديا الشعبية والأعمال الخفيفة التي تعتمد على اللهجة المصرية العامية. هذا التوجه التجاري جعل اللغة العربية الفصحى عنصراً ثانوياً أو مهملاً في معظم الإنتاجات. حتى عندما حاولت السينما المصرية تقديم أعمال تاريخية أو أدبية تتطلب استخدام اللغة العربية الفصحى، كانت النتائج في الغالب مخيبة للآمال بسبب ضعف التحضير اللغوي للممثلين وغياب الرقابة اللغوية الصارمة.
جودة التدريب والتعليم المسرحي في سوريا
المعايير الأكاديمية الصارمة
يخضع الطالب السوري الراغب في دراسة التمثيل لاختبارات قبول شديدة الصرامة، تشمل فحصاً دقيقاً لقدراته اللغوية. المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق يُعَدُّ من أعرق المؤسسات التعليمية في العالم العربي، حيث يشترط على المتقدمين إتقان اللغة العربية الفصحى نطقاً وقراءة وفهماً. البرنامج الدراسي يتضمن مواداً متخصصة في الصوتيات (Phonetics) ومخارج الحروف والإلقاء والخطابة، مما يضمن تخريج ممثلين محترفين قادرين على التعامل مع أي نص أدبي مهما كانت صعوبته اللغوية.
التدريب العملي في المعاهد السورية يركز بشكل مكثف على النصوص الكلاسيكية والأعمال التراثية التي تستخدم اللغة العربية الفصحى الراقية. الطلاب يقضون ساعات طويلة في التدريب على نطق الكلمات بشكل صحيح، وضبط الإيقاع اللغوي، وفهم المعاني العميقة للنصوص. هذا التدريب الشاق يُشكل عادات لغوية سليمة تستمر مع الممثل طوال مساره المهني، وتجعله قادراً على أداء أي دور يتطلب استخدام اللغة العربية الفصحى بثقة واقتدار.
الفجوة التدريبية في مصر
في الجانب المصري، نجد أن معاهد التمثيل وإن كانت موجودة، إلا أنها لا تعطي اللغة العربية الفصحى الأهمية ذاتها. التركيز الأكبر ينصب على التمثيل العامي والكوميديا والأعمال التجارية التي لا تتطلب إتقاناً لغوياً عالياً. الطالب المصري قد يتخرج من معهد التمثيل دون أن يكون قد مر بتدريب جدي على اللغة العربية الفصحى، مما يجعله غير مؤهل للمشاركة في الأعمال التاريخية أو الأدبية الرصينة.
المشكلة تتفاقم عندما يحاول المنتجون المصريون إنتاج أعمال تاريخية أو دينية تتطلب استخدام اللغة العربية الفصحى، فيضطرون للاستعانة بممثلين غير مؤهلين لغوياً، أو يلجأ�ون لحلول ترقيعية مثل الدوبلاج أو تبسيط النصوص. هذا يؤدي في النهاية إلى منتج فني ضعيف لا يرتقي لمستوى الطموح ولا يُقارن بما تقدمه الدراما السورية من احترافية وإتقان.
المدارس المسرحية ودورها في إتقان اللغة العربية الفصحى
ارتبط تاريخ المسرح السوري بأسماء رواد كبار أدركوا منذ البداية أهمية اللغة العربية الفصحى كأداة فنية وحضارية. شخصيات مثل سعد الله ونوس وممدوح عدوان ووليد قوقة وضعوا أسساً راسخة لمسرح عربي أصيل يحترم اللغة ويستخدمها بمهارة وجمال. هؤلاء الرواد لم يكونوا مجرد كتاب أو مخرجين، بل كانوا مفكرين ومثقفين عميقين أدركوا أن اللغة العربية الفصحى هي الوعاء الحقيقي للفكر العربي والثقافة العربية.
المسرح القومي السوري والمسرح العسكري ومسارح أخرى شكلت بيئة حاضنة لتطوير الأداء اللغوي الراقي. الممثلون في هذه المسارح كانوا يخضعون لتدريبات مستمرة على اللغة العربية الفصحى، ويتلقون ملاحظات دقيقة من مختصين لغويين يحضرون البروفات. هذا الاهتمام الدقيق بالتفاصيل اللغوية أنتج جيلاً ذهبياً من الممثلين السوريين الذين أصبحوا مرجعيات في الأداء الفصيح، مثل دريد لحام (في أدواره الجادة)، ورفيق سبيعي، ومحمد حداقي، وعباس النوري، وجمال سليمان، وآخرين كثر.
في مصر، رغم وجود مسارح عريقة مثل المسرح القومي ومسرح الطليعة، إلا أن التركيز كان دائماً منصباً على المضمون الاجتماعي والكوميديا أكثر من الاهتمام باللغة العربية الفصحى. المسرحيات المصرية الشهيرة كانت في معظمها عامية، وحتى عندما ظهرت محاولات لتقديم مسرحيات بلغة عربية فصحى، كانت غالباً ما تفتقر للانسيابية والطبيعية التي نجدها في المسرح السوري. الممثل المصري تعود على الأداء العامي، وعندما يُطلب منه التحدث باللغة العربية الفصحى، يبدو متكلفاً ومتصنعاً، مما يُفقد الأداء تلقائيته وتأثيره.
مقارنة الأداء اللغوي بين الدراما السورية والمصرية
معايير النطق والإلقاء
عند إجراء مقارنة موضوعية بين الأداء اللغوي في الدرامتين، نجد فوارق شاسعة في عدة جوانب. أولاً، مخارج الحروف: الممثل السوري ينطق كل حرف من مخرجه الصحيح، فالقاف قاف والضاد ضاد والظاء ظاء، بينما الممثل المصري غالباً ما يخلط بين هذه الحروف بسبب خصوصية اللهجة المصرية. هذا الخلط يُشوه اللغة العربية الفصحى ويجعل الكلام غير مفهوم أحياناً، خصوصاً للمتلقي العربي من خارج مصر.
ثانياً، الإعراب: اللغة العربية الفصحى تعتمد بشكل أساسي على الإعراب لتحديد المعاني ووظائف الكلمات في الجملة. الممثل السوري يُتقن الإعراب بشكل ممتاز، فتسمعه يرفع الفاعل وينصب المفعول ويجر المضاف إليه بدقة متناهية. هذا الإعراب الصحيح يُعطي الكلام جزالة ووضوحاً. في المقابل، الممثل المصري يعاني من ضعف واضح في الإعراب، فتسمع أخطاء فادحة مثل نصب الفاعل أو رفع المفعول، وهي أخطاء تكسر القواعد الأساسية للغة العربية الفصحى.
الإيقاع والتنغيم اللغوي
الإيقاع اللغوي (Prosody) في اللغة العربية الفصحى له أهمية كبيرة في إيصال المعنى والشعور. الممثل السوري يُدرك هذه الأهمية ويستخدم التنغيم الصوتي بمهارة لإبراز المعاني المختلفة والانفعالات المتنوعة. تسمع في أدائه ارتفاعاً وانخفاضاً طبيعياً في الصوت، وتوقفات في الأماكن الصحيحة، وتشديداً على الكلمات المهمة، كل ذلك بطريقة تلقائية غير متكلفة. هذا المستوى من التحكم يتطلب فهماً عميقاً للغة العربية الفصحى وقدرة فائقة على التحكم في الصوت.
الممثل المصري، بسبب نشأته على اللهجة العامية، يفتقر لهذا الإحساس بالإيقاع الفصيح. تسمع في أدائه تنغيماً عامياً يحاول فرضه على اللغة العربية الفصحى، مما يخلق تنافراً واضحاً. كذلك، السرعة في الكلام تكون غير مناسبة، إما بطيئة بشكل مُمل أو سريعة بشكل يُفقد الكلمات وضوحها. هذه الإشكاليات تنبع من عدم الارتياح الحقيقي للغة العربية الفصحى، حيث الممثل يؤدي لغة ليست لغته الطبيعية، فيبدو ذلك واضحاً في أدائه.
أمثلة بارزة من الدراما السورية
تزخر الدراما السورية بأمثلة رائعة على استخدام اللغة العربية الفصحى بمستوى احترافي عال. مسلسل “الحجاج” للممثل الراحل يوسف الخال قدم نموذجاً فريداً في الأداء اللغوي، حيث استطاع الخال أن يجسد شخصية معقدة بلغة عربية فصحى راقية، مُظهراً قدرة هائلة على التحكم في الصوت والنطق والإعراب. كل كلمة كانت تخرج من فمه بدقة متناهية، وكل جملة كانت تحمل وزناً فنياً ولغوياً كبيراً. هذا المستوى لم نشهده في أي عمل مصري مماثل.
مسلسل “باب الحارة” رغم اعتماده بشكل أساسي على اللهجة الشامية العامية، إلا أن الحلقات التي استخدمت فيها اللغة العربية الفصحى (في المشاهد التاريخية أو الرسمية) كانت متقنة جداً. الممثلون السوريون أثبتوا قدرتهم على الانتقال السلس من العامية إلى اللغة العربية الفصحى دون تكلف أو تصنع. هذه المرونة اللغوية تكشف عن عمق التدريب والثقافة اللغوية التي يتمتع بها الممثل السوري.
الأعمال التاريخية الكبرى مثل “عمر” و”صلاح الدين” و”ملوك الطوائف” قدمت نماذج استثنائية في استخدام اللغة العربية الفصحى. هذه المسلسلات لم تكن مجرد أعمال ترفيهية، بل كانت مشاريع ثقافية ولغوية طموحة، استخدمت لغة راقية تليق بالأحداث التاريخية المصورة. الحوارات كانت عميقة وجزلة، والأداء كان مقنعاً ومؤثراً، والنطق كان سليماً بنسبة تكاد تكون مثالية. هذا المستوى الرفيع يُعَدُّ مرجعاً يُحتذى في كيفية استخدام اللغة العربية الفصحى في الدراما التلفزيونية.
اللهجة السورية وقربها من اللغة العربية الفصحى
تتميز اللهجات السورية، وخاصة اللهجة الدمشقية، بقربها النسبي من اللغة العربية الفصحى مقارنة باللهجة المصرية. هذا القرب ليس مصادفة، بل هو نتيجة للتاريخ اللغوي للمنطقة، حيث كانت دمشق عاصمة الخلافة الأموية ومركزاً لنشر اللغة العربية الفصحى الأصيلة. اللهجة السورية حافظت على كثير من الخصائص الصوتية للغة العربية الفصحى، مثل نطق القاف والضاد والظاء بشكل قريب جداً من النطق الفصيح.
هذا القرب اللهجي يُسهل على الممثل السوري الانتقال إلى اللغة العربية الفصحى، فهو لا يحتاج إلى تغيير جذري في طريقة نطقه للحروف، بل مجرد ضبط وتدقيق. في المقابل، اللهجة المصرية تختلف بشكل كبير عن اللغة العربية الفصحى في مخارج الحروف والتنغيم والمفردات. الممثل المصري عندما يحاول التحدث باللغة العربية الفصحى، عليه أن يُغير طريقة نطقه للقاف (من همزة إلى قاف)، والجيم (من جيم قاهرية إلى جيم فصحى)، والثاء والذال (من ت و د إلى ث و ذ)، وهذا التغيير الجذري يكون صعباً ويظهر متكلفاً.
علاوة على ذلك، المفردات المستخدمة في اللهجة السورية غالباً ما تكون قريبة من الجذور العربية الفصحى، بينما اللهجة المصرية دخلت عليها كثير من المفردات التركية والإيطالية والفرنسية التي أبعدتها عن أصلها العربي. هذا الثراء اللغوي في اللهجة السورية يجعل الممثل السوري أكثر ألفة مع اللغة العربية الفصحى، فهو يتعامل معها كامتداد طبيعي للهجته وليس كلغة غريبة منفصلة. هذه الميزة اللهجية تُعطي الممثل السوري أفضلية واضحة في أداء النصوص الفصيحة.
معايير اختيار الممثلين وأثرها على جودة الأداء
الانتقاء الدقيق في سوريا
تتبع الدراما السورية معايير صارمة في اختيار الممثلين، خاصة في الأعمال التي تعتمد على اللغة العربية الفصحى. المخرجون والمنتجون السوريون يدركون جيداً أن نجاح العمل التاريخي أو الأدبي يعتمد بشكل كبير على قدرة الممثلين على إتقان اللغة. لذلك، عملية الاختيار تشمل اختبارات لغوية دقيقة، حيث يُطلب من الممثل قراءة نصوص فصيحة وتقييم نطقه وإعرابه وقدرته على التعبير باللغة العربية الفصحى.
هذا الانتقاء الدقيق يضمن أن يكون جميع أفراد طاقم التمثيل على مستوى واحد من الإتقان اللغوي، مما يُعطي العمل تجانساً وانسجاماً. لا يُقبل في العمل السوري الجاد ممثل ضعيف لغوياً مهما كانت شهرته أو شعبيته، لأن ذلك سيؤثر سلباً على جودة العمل بأكمله. هذه الاحترافية في الاختيار هي أحد أسرار التفوق السوري في الدراما الفصيحة.
التساهل في المعايير المصرية
في المقابل، الدراما المصرية غالباً ما تعتمد على معايير أخرى في اختيار الممثلين، مثل الشهرة والشعبية والعلاقات الشخصية، بينما تُهمل القدرة اللغوية. نرى في كثير من الأعمال المصرية التاريخية ممثلين مشهورين لكنهم غير قادرين على نطق اللغة العربية الفصحى بشكل صحيح، مما يُفسد العمل ويجعله محل سخرية. هذا التساهل في المعايير يعكس نظرة تجارية بحتة للدراما، حيث الأهم هو جذب المشاهدين بالأسماء المعروفة وليس تقديم منتج فني راق.
المشكلة تتفاقم عندما لا يخضع الممثلون المصريون لتدريب لغوي كافٍ قبل التصوير. في الدراما السورية، يُخصص وقت طويل للبروفات اللغوية والتدريب على النطق السليم قبل بدء التصوير. أما في الدراما المصرية، فهذا الجانب غالباً ما يُهمل بسبب ضغوط الجداول الزمنية والميزانيات، مما يؤدي إلى نتائج ضعيفة ومخيبة للآمال. النتيجة النهائية هي أعمال مليئة بالأخطاء اللغوية والنطق الركيك الذي لا يليق بأعمال تاريخية أو أدبية رصينة.
دور المخرجين والكتاب السوريين
يُعَدُّ المخرج السوري والكاتب السوري عنصرين محوريين في تحقيق التميز اللغوي للدراما السورية. المخرجون السوريون مثل حاتم علي وباسل الخطيب ونجدت أنزور وغيرهم، كانوا مثقفين ومتعلمين ومهتمين باللغة العربية الفصحى كجزء لا يتجزأ من رؤيتهم الفنية. هؤلاء المخرجون لا يتسامحون مع الأخطاء اللغوية، ويُصرون على الدقة والإتقان في كل كلمة تُنطق أمام الكاميرا.
المخرج السوري يعمل عن كثب مع مستشارين لغويين متخصصين يراجعون النصوص ويحضرون التصوير لتصحيح أي خطأ لغوي فوري. هذا المستوى من الحرص على اللغة العربية الفصحى نادر جداً في الإنتاج المصري. كذلك، الكتاب السوريون أمثال وليد سيف (رغم أنه أردني إلا أنه ارتبط بالدراما السورية) وحسن سامي اليوسف وغيرهم، كتبوا نصوصاً درامية بلغة عربية فصحى راقية وجزلة، تحمل عمقاً أدبياً وفكرياً. هذه النصوص الممتازة تُشكل الأساس الذي يبني عليه الممثل أداءه، فإذا كان النص ضعيفاً لغوياً، سيكون الأداء ضعيفاً حتماً.
في المقابل، كثير من الكتاب المصريين يكتبون بالعامية أو بلغة عربية فصحى ركيكة مليئة بالأخطاء النحوية والأسلوبية. هذا الضعف في النص الأصلي ينعكس بالضرورة على الأداء النهائي. حتى لو كان الممثل جيداً، فإن نصاً ضعيفاً لن يُنتج عملاً متميزاً. الفارق الجوهري هنا هو أن الكاتب السوري يحترم اللغة العربية الفصحى ويتقنها ويستخدمها بجمال، بينما الكاتب المصري غالباً ما ينظر إليها كعبء ثقيل يُفضل تجنبه أو التخفيف منه.
التحديات التي تواجه الدراما المصرية
الهيمنة الطويلة للعامية
واجهت الدراما المصرية تحدياً تاريخياً يتمثل في هيمنة العامية المصرية على الإنتاج الفني منذ عقود طويلة. هذه الهيمنة خلقت ثقافة فنية تعتبر العامية هي اللغة “الطبيعية” للدراما، بينما اللغة العربية الفصحى تُعتبر لغة “رسمية” متكلفة غير مناسبة للعمل الفني. هذه النظرة الخاطئة أدت إلى إهمال تدريس وتدريب اللغة العربية الفصحى في المعاهد الفنية المصرية، وأنتجت أجيالاً من الممثلين غير قادرين على الأداء الفصيح.
المشكلة تكمن في أن الصناعة الدرامية المصرية بُنيت على نموذج تجاري يُعطي الأولوية للربح السريع والانتشار الواسع على حساب الجودة الفنية واللغوية. الأعمال العامية تلقى رواجاً شعبياً أكبر لأنها أسهل في الفهم وأقرب للجمهور العادي، لذلك يُفضل المنتجون الاستثمار فيها. هذا التوجه التجاري حرم الساحة الفنية المصرية من تطوير قدراتها في مجال الدراما الفصيحة، وجعلها متأخرة بمراحل عن نظيرتها السورية.
غياب الإرادة المؤسسية
التحدي الأكبر الذي يواجه الدراما المصرية هو غياب الإرادة المؤسسية لإحداث تغيير جذري في التعامل مع اللغة العربية الفصحى. المؤسسات الإنتاجية والتعليمية المصرية لم تضع خططاً جدية لتحسين المستوى اللغوي للممثلين، ولم تستثمر في برامج تدريبية مكثفة، ولم تضع معايير صارمة تُلزم الممثلين بإتقان اللغة العربية الفصحى. هذا الإهمال المؤسسي المستمر جعل الفجوة تتسع بين الدراما المصرية والدراما السورية في هذا المجال.
من جهة أخرى، الإعلام المصري والنقاد لم يُسلطوا الضوء الكافي على هذه المشكلة، بل على العكس، كثير منهم يُبرر الضعف اللغوي ويعتبره أمراً مقبولاً أو غير مهم. هذه الثقافة المتسامحة مع الأخطاء اللغوية تُعيق أي محاولة للتطوير. في سوريا، النقد اللغوي كان حاضراً دائماً، والجمهور نفسه متعلم ومثقف ويُقدر اللغة العربية الفصحى، لذلك أي عمل ضعيف لغوياً يلقى رفضاً ونقداً لاذعاً، مما يدفع المنتجين والممثلين للحفاظ على مستوى عالٍ من الإتقان.
الخاتمة
بعد هذا التحليل الشامل، يتضح بجلاء أن الممثلين السوريين متفوقون بشكل كبير على نظرائهم المصريين في أداء اللغة العربية الفصحى ضمن الأعمال الدرامية. هذا التفوق ليس وليد الصدفة، بل هو نتيجة تراكمات تاريخية وثقافية وتعليمية ومؤسسية جعلت من الدراما السورية نموذجاً يُحتذى في احترام اللغة وإتقانها. الخلفية اللغوية والثقافية السورية، والتدريب الأكاديمي الصارم، والمعايير المهنية العالية، والإرادة الفنية الجادة، كلها عوامل تضافرت لإنتاج ممثلين سوريين قادرين على تقديم أداء فصيح راق يليق بتراث اللغة العربية الفصحى العريق.
في المقابل، الدراما المصرية تعاني من إشكاليات عميقة تتعلق بالتدريب والمعايير والثقافة الفنية العامة، مما يجعلها غير قادرة على منافسة الدراما السورية في مجال اللغة العربية الفصحى. الحل يكمن في إعادة النظر الجذرية في منظومة التعليم والتدريب الفني، ووضع معايير صارمة لاختيار الممثلين، والاستثمار في برامج تطوير لغوي شاملة، والتخلي عن النظرة التجارية البحتة للفن. فقط عندها يمكن للدراما المصرية أن تُضيق الفجوة وتقدم أعمالاً تليق بمكانة مصر التاريخية والثقافية.
إن اللغة العربية الفصحى ليست مجرد أداة تواصل، بل هي هوية حضارية وتراث إنساني يجب الحفاظ عليه وإتقانه. الدراما السورية نجحت في جعل اللغة العربية الفصحى حية ونابضة وجميلة على الشاشة، وهذا إنجاز يستحق التقدير والاحترام. نأمل أن تكون هذه التجربة السورية الناجحة ملهمة لكل الدول العربية، بما فيها مصر، لإعادة الاعتبار للغة العربية الفصحى في الإنتاج الفني والدرامي، لأن ذلك يُعَدُّ استثماراً في هويتنا وثقافتنا ومستقبل أجيالنا.




