دورا أوروبوس: تاريخ وجمال فوق هضبة الفرات
دورا أوروبوس، المدينة القديمة التي تحكي قصة امتزاج الفنون والتاريخ عبر العصور. اكتُشفت في العشرينات من القرن الماضي عندما عثر الجيش البريطاني على لوحات جدارية في الموقع في عام 1920، كاشفةً النقاب عن سمات فنية متأثرة بالفنين الفارسي والكلاسيكي. تأسست المدينة فوق هضبة تطل على الضفة اليمنى لنهر الفرات في موقع إستراتيجي يحمي الطرق التجارية.
تمثل دورا أوروبوس نموذجاً للمدينة الهلنستية التي تعاقبت عليها الحضارات، بدءاً من السلوقيين الذين أسسوها كمستعمرة عسكرية، مروراً بالبارثيين الذين سيطروا عليها لثلاثة قرون، وانتهاءً بالرومان الذين جعلوها حصناً يحمي حدود إمبراطوريتهم. على الرغم من التدمير الذي ألحقه الساسانيون بالمدينة في عام 256م، تظل دورا أوروبوس شاهداً حياً على التاريخ العريق، بفضل اكتشافاتها الأثرية من لقى، وكتابات، ولوحات جدارية، ومباني معمارية.
في هذه المقالة، سنأخذكم في رحلة عبر الزمن لاستكشاف تاريخ دورا أوروبوس وتطورها، من تأسيسها وحتى سقوطها، متناولين التحصينات والمعابد والشوارع المتعامدة التي تشكل ملامح هذه المدينة الفريدة. سنسلط الضوء على الأهمية الثقافية والتجارية التي لعبتها دورا أوروبوس في العصور القديمة، وكيفية تأثير الحضارات المتعاقبة على بنيتها ونسيجها الاجتماعي.
اكتشاف دورا أوروبوس
تم اكتشاف هذه المدينة في العشرينات من القرن الماضي، عندما تم العثور على بعض اللوحات الجدارية أثناء وجود الجيش البريطاني في الموقع في سنة 1920، ووضحت هذه الاكتشافات السمات الفنية المحلية المتأثرة بالفنين الفارسي والكلاسيكي. فبدأت أعمال التنقيب في الموقع سنة 1922م، واستمرت حتى سنة 1923م، قام بها ف. كيمون F.Cumount ومن بعده م.روستوفتزف M.Rostovtzeff من جامعة (يال) بين سنتي 1928 – 1937م. وفي الثمانينات عَمِلَتْ بالموقع بعثة سورية – فرنسية بإدارة بيير لوريش.
موقع المدينة وتأسيسها
شيدت مدينة دورا أوروبوس في موقع متميز فوق هضبة مطلة على الضفة اليمنى للفرات الأوسط على ارتفاع 40م.
عُرِفَ هذا الموقع سابقاً باسم دورا، منذ القرن الرابع عشر قبل الميلاد. وتأسست دورا أوروبوس كمستعمرة عسكرية باسم أوروبوس Europos في عصر سلوقس نيكاتور في نهاية القرن الرابع قبل الميلاد، وبداية القرن الثالث قبل الميلاد، كان الهدف من هذا التشييد هو التحكم بمعبر مهم على نهر الفرات، وذلك لحماية الطريق التجاري الواصل بين عاصمتي الدولة السلوقية وهي سلوقية على نهر دجلة بالقرب من بغداد، وأنطاكية في سورية، التي أصبحت فيما بعد العاصمة الوحيدة لهذه الدولة. وقد وضحت لنا المكتشفات الأثرية من اللقى والكتابات واللوحات الجدارية والمباني المعمارية تاريخ الاستيطان وتطوره في هذا الموقع.
بلغ حجم هذه المستوطنة في سنة 150 قبل الميلاد تقريباً حجم المدينة الحالية، تحيطها الأسوار وتقسمها الشوارع المتقاطعة إلى جزر سكنية منتظمة وفق مساحات متساوية، كما بنيت فيها آغورا وقلعة بالإضافة إلى مبان دينية …إلخ.
فترة السيطرة البارثية
سيطر البارثيون على دورا أوروبوس سنة 113 ق.م، واستمرت سيطرتهم عليها حوالي ثلاثة قرون، استوطنتها مجموعات من شعوب المنطقة إلى جانب سكانها الأصليين من اليونان والمقدونيين. اكتسبت المدينة الكثير من الملامح الشرقية والمحلية، لكن دون تغير في هيئة المدينة الهلنستية.
السيطرة الرومانية والتأثير التدمري
سيطر الرومان عليها خلال عهد الإمبراطور تراجانوس بين سنتي 115 – 117م، وقد تم بناء قوس نصر احتفاءً بهذه المناسبة، ولكن عادت المدينة من جديد إلى السيطرة البارثية، ووصل عدد سكانها إلى حوالي عشرين ألفاً، وقد قام التدمريون بدور مهم في حياة المدينة خلال الفترة ، وذلك لأهمية التجارة الدولية حينها، حيث برزت أهمية مدينتي تدمر ودورا أوروبوس في هذه التجارة.
احتلها الرومان سنة 168 م، لتصبح حصناً يحمي حدودها على نهر الفرات، وفي سنة 212م خلال عهد الأسرة السيفيرية تم تحويل الجزء الشمالي من المدينة إلى معسكر للجيش الروماني وبني قصر الحاكم، وفي سنة 250م حصلت المدينة على حقوق المستعمرة الرومانية.
التدمير والسيطرة الساسانية
بعد أن وصل الساسانيون إلى سدة الحكم في بلاد فارس منذ سنة 226م شنوا حملات توسعية بدأت ببلاد الرافدين أولاً ثم سورية، فسيطروا على دورا أوروبوس، ودمروها في سنة 256م، ولم تقم لها قائمة من بعدها، حيث هجرت بعد هذا التاريخ.
معالم المدينة الأثرية
امتدت مساحة مدينة دورا أوروبوس إلى 75 هكتاراً، وتميزت بتحصيناتها القوية التي تشمل قلعة مشرفة على سفح الفرات الحاد الانحدار وأسوار مدعمة بالأبراج، خاصة في الجدران الغربية المستقيمة. شهدت المدينة تشييد العديد من المباني، بما في ذلك المعابد وقصر الحاكم والآغورا. تميزت دورا أوروبوس بشوارع متقاطعة، قسمت المدينة إلى جزر سكنية منظمة وفقاً لأبعاد متساوية، مما يعكس خصائص المدينة الهلنستية. الجدير بالذكر أن التخطيط الشبكي للمدينة لم يكتمل إلا بعد منتصف القرن الثاني قبل الميلاد، كما أن بناء الأسوار والآغورا ومعبدي أرتيميس وزيوس مجيستوس لم ينتهِ قبل الغزو البارثي في سنة 113 ق.م. وعلى الرغم من هذا، لم يغير البارثيون في تخطيط المدينة أو تقسيم الجزر. تضم المدينة خمسة حمامات رومانية وسبعة عشر مبنى دينياً، وغيرها من المنشآت.
خاتمة
تظل دورا أوروبوس، المدينة العريقة التي مزجت بين الفنون الفارسية والهلنستية، شاهدة على عظمة الحضارات المتعاقبة وتأثيرها على المنطقة. على الرغم من التدمير والهجر الذي طال المدينة، إلا أن اكتشافاتها الأثرية قدمت لنا نافذة مدهشة إلى الماضي، موضحة تفاصيل حياتها وتاريخها.
من تأسيسها كمستعمرة عسكرية في عصر السلوقيين، إلى سيطرة البارثيين، ثم الرومان، وحتى تدميرها على يد الساسانيين، تعكس دورا أوروبوس كيف كانت مركزاً تجارياً وثقافياً مهماً في قلب الصحراء السورية. تحكي الجدران المحصنة والشوارع المتعامدة والمعابد والآغورا قصة مدينة حافظت على هويتها رغم التحديات والتغيرات السياسية.
إن فهم تاريخ دورا أوروبوس يساهم في تقدير الجهود المبذولة للحفاظ على هذا الإرث الثقافي الغني. تبقى دورا أوروبوس مثالاً حياً على الروابط التاريخية بين الشرق والغرب، وتذكاراً لقوة الحضارات في تشكيل مصير المدن. عند استكشاف هذه المدينة اليوم، نحن لا نكتشف فقط آثاراً قديمة، بل نتعرف على قصص الإنسانية وأحلامها وطموحاتها عبر الزمن.
الأسئلة الشائعة
- متى تم اكتشاف دورا أوروبوس؟
- تم اكتشاف دورا أوروبوس في العشرينات من القرن الماضي، وتحديداً في سنة 1920 عندما عثر الجيش البريطاني على بعض اللوحات الجدارية في الموقع.
- أين تقع دورا أوروبوس؟
- تقع دورا أوروبوس فوق هضبة مطلة على الضفة اليمنى للفرات الأوسط على ارتفاع 40 مترًا، في موقع متميز إستراتيجي.
- ما هو السبب وراء تأسيس دورا أوروبوس؟
- تأسست دورا أوروبوس كمستعمرة عسكرية بهدف التحكم بمعبر مهم على نهر الفرات وحماية الطريق التجاري الواصل بين عاصمتي الدولة السلوقية.
- من هم الحضارات التي سيطرت على دورا أوروبوس؟
- سيطرت على دورا أوروبوس حضارات عدة، منها السلوقيين، البارثيين، الرومان، وأخيراً الساسانيين الذين دمروها في سنة 256م.
- ما هي الأهمية التجارية لدورا أوروبوس؟
- كانت دورا أوروبوس مركزاً تجارياً مهماً حيث تربط بين عاصمتي الدولة السلوقية وتدمر، مما زاد من أهميتها في التجارة الدولية خلال العصور القديمة.
- ما هي أهم المعالم الأثرية في دورا أوروبوس؟
- تشمل أهم المعالم الأثرية في دورا أوروبوس القلعة، الأسوار المدعمة بالأبراج، المعابد، قصر الحاكم، الآغورا، والحمامات الرومانية.
- ما هو حجم دورا أوروبوس؟
- بلغت مساحة دورا أوروبوس حوالي 75 هكتاراً، وكانت مقسمة إلى جزر سكنية منتظمة بشوارع متعامدة.
- كيف أثرت الحضارات المتعاقبة على تخطيط دورا أوروبوس؟
- رغم تعدد الحضارات التي سيطرت على دورا أوروبوس، فإن المدينة احتفظت بهيئتها الهلنستية دون تغير في تخطيطها العام، وذلك على الرغم من التأثيرات المحلية والشرقية.
- ما هي الأسباب التي أدت إلى تدمير دورا أوروبوس؟
- تم تدمير دورا أوروبوس على يد الساسانيين في سنة 256م، وبعد ذلك هجرت ولم تقم لها قائمة من بعدها.
- من هم الباحثون الذين ساهموا في التنقيب عن دورا أوروبوس؟
- شارك في أعمال التنقيب ف. كيمون F.Cumount، م. روستوفتزف M.Rostovtzeff من جامعة يال، وبيير لوريش، ضمن بعثات مختلفة بين العشرينات والثمانينات من القرن الماضي.