الموسيقا السورية: أصوات تعبر الزمان والمكان
عندما نتحدث عن الموسيقا في سوريا، نحن لا نتحدث عن بلد أو تراث عادي، بل عن واحدة من أقدم الحضارات التي أنتجت أول أبجدية في التاريخ البشري، في مدينة أوغاريت عاصمة الكنعانيين. هذه المدينة، التي تأسست في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد، ليست فقط مهد الأبجدية، بل أيضاً مهد الموسيقا العالمية. في أوغاريت وُجدت أقدم نوتة موسيقية مدونة تعود إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وهي شهادة حية على تاريخ طويل من الإبداع الموسيقي والتطور الفني. هذه النوتة، المحفوظة على لوح طيني، تروي قصة حزينة لامرأة تتضرع إلى إلهة القمر نيكال، وتعكس عمق الأحاسيس والمشاعر التي كان يعبر عنها الناس من خلال الموسيقا منذ آلاف السنين.
الموسيقا السورية تحمل في طياتها تاريخاً عريقاً يمتد عبر آلاف السنين، وشهدت تطورات وتحولات جعلتها مرآة تعكس تنوع وغنى التراث السوري. عبر العصور، تنوعت الموسيقا في سوريا بفضل تأثيرات متعددة من ثقافات مختلفة، بدءاً من الموسيقا السريانية في أورفة، مروراً بالموسيقا الأموية في دمشق، وصولاً إلى التأثيرات العثمانية والأوروبية في القرن العشرين. هذه التحولات جعلت من الموسيقا السورية كنزاً ثقافياً يعكس تاريخ البلاد وتجاربها الإنسانية المتنوعة.
من مدينة حلب المشهورة بموشحاتها الحلبية إلى التراتيل السريانية في الجزيرة السورية، ومن أغاني الريف التي تتغنى بالزراعة والحصاد إلى الأغاني الماردللية التي تعكس التعدد الثقافي في الجزيرة السورية، كلها تعبر عن ثراء وتنوع الموسيقا السورية. حتى الأذان الجماعي في الجامع الأموي في دمشق، والذي يجمع أكثر من عشرة مؤذنين يطلقون الأذان بصوت جماعي واحد، يمثل جزءاً فريداً من التراث الموسيقي الإسلامي في سوريا.
الموسيقا في سوريا ليست مجرد فن، بل هي جزء لا يتجزأ من الهوية الثقافية والوطنية للبلاد. إنها تعكس تاريخاً طويلاً من التفاعل الثقافي والتبادل الفني، وتجسد الروح الجماعية للشعب السوري. بفضل هذا التراث الغني والمتنوع، تبقى الموسيقا السورية مرآة تعكس أصالة وجمال الحياة في سوريا، وحكاية مستمرة تُروى عبر الأجيال.
أول نوتة موسيقية في التاريخ
مدينة أوغاريت تفتخر بأنها حفظت من القرن الرابع عشر قبل الميلاد ما يعتبره كثير من الباحثين أول نوتة موسيقية مدونة في التاريخ. هذه النوتة، المكتوبة على لوح طيني يحمل النص باللغة الحورية، تروي حزن امرأة غير قادرة على الإنجاب فتتضرع إلى إلهة القمر نيكال. هذا النص الشعري والموسيقي يعكس عمق الروح الإنسانية في تلك العصور وقدرتها على التعبير عن المشاعر والألم من خلال الموسيقا. وجود هذا السلم الموسيقي والتنويط على هذا اللوح الطيني يعكس تطور الأدوات الموسيقية والعزف في تلك الفترة، ويشير إلى أن الموسيقا كانت جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية والدينية.
هذا الاكتشاف العظيم لم يكن مجرد قطعة أثرية، بل هو رمز للابتكار والعبقرية الإنسانية في العصور القديمة. المحاولات المستمرة لاستخراج اللحن الأصلي من اللوح الطيني تعكس تقدير العلماء والفنانين لهذا التراث الموسيقي القديم، ولكن الاختلاف في قواعد القراءة بين الباحثين جعل من الصعب الوصول إلى نسخة موحدة من اللحن.
الموسيقي السوري إياد الريماوي قدم تصوراً رائعاً لهذه الترنيمة القديمة، حيث تم عرض هذا العمل الفني في إكسبو دبي 2020. هذا العرض كان بمثابة إحياء لهذا التراث الموسيقي الغني، حيث استطاع زوار المعرض والجناح السوري الاستماع إلى قصة هذه المرأة والترنيمة التي تمثل دعاءها لإلهة القمر نيكال. هذا الإحياء لم يكن مجرد عرض فني، بل هو جسر يربط بين الماضي والحاضر، ويعيد إحياء قصة تمتد جذورها إلى آلاف السنين. ترنيمة أوغاريت تظل شاهداً على عبقرية الإنسان وقدرته على التعبير عن مشاعره وأفكاره من خلال الموسيقا، مما يجعلها جزءاً ثميناً من التراث الإنساني العالمي.
تاريخ الموسيقا السورية
مرت الموسيقا السورية بعصور وحقب زمنية متعددة، تطورت خلالها على أيدي العديد من الأشخاص البارزين. في مرحلة نشوء الكنيسة السريانية في أورفة، لجأ الشاعر أفرام السرياني إلى وضع التراتيل في ألحان يسهل حفظها، مستخدماً المقامات الموسيقية المنتشرة في المنطقة والتي تعود أصولها إلى بلاد ما بين النهرين. كانت تلك التراتيل خطوة مهمة في تحويل الكلمات الدينية إلى ألحان تتردد في الكنائس وتصل بسهولة إلى الأذن والقلب. هذا العمل أثبت أن الموسيقا ليست مجرد فن، بل هي وسيلة للتواصل الروحي والديني العميق.
في العصر الأموي (661-750)، تطورت الموسيقا والغناء السوريين بشكل كبير، حيث انتقل الغناء من كونه تقليداً شعبياً إلى القصور وأصبحت مدينة حلب مركزاً ثقافياً مهماً. في حلب، التي كانت تُعرف بكونها مركزاً للموسيقى والشعر، اجتمع كبار الشعراء والموسيقيين مثل أبو الطيب المتنبي وأبو نصر الفارابي. الفارابي، الذي يُعتبر واحداً من أعظم الموسيقيين والفلاسفة في التاريخ، كتب العديد من الكتب الموسيقية التي تضمنت نظرياته الموسيقية واختراعه آلة القانون، مما أسهم في تطوير الموسيقا بشكل ملحوظ في تلك الفترة.
تطورت الموسيقا السورية أيضاً خلال فترة الحكم العثماني، حيث تأثرت بالثقافة الموسيقية التركية وأصبحت جزءاً من الموسيقا السورية، خاصة في الموسيقا الدينية والدنيوية. الأنماط الموسيقية التركية، مثل الموشحات والأدوار، اندمجت مع التراث الموسيقي السوري، مما أثراها وأضاف إليها أبعاداً جديدة. هذا التأثير كان واضحاً في المدن الكبرى مثل دمشق وحلب، حيث كان للموسيقى دور كبير في الحياة الاجتماعية والدينية.
مع بداية القرن العشرين، بدأ التأثير الأوروبي يتزايد في الموسيقا السورية، حيث ازدادت الحانات والملاهي التي تقدم الحفلات الغنائية والاستعراضية. كانت هذه الحانات والملاهي ملتقى للفنانين والشعراء والموسيقيين، حيث تبادلوا الأفكار والألحان وأبدعوا في تقديم أعمال جديدة. يقول فخري البارودي في مذكراته إن أشهر المغنيات كن يهوديات، مما يعكس التنوع الثقافي والاجتماعي الذي كان سائدًا في تلك الفترة.
هذا التنوع الثقافي أثر بشكل كبير على الموسيقا السورية وجعلها أكثر غنى وتنوعًا. تأثير الثقافات المختلفة، سواء كانت شرقية أو غربية، جعل الموسيقا السورية مزيجًا فريدًا يعكس تاريخ البلاد الطويل وتراثها الغني. الموسيقا في سوريا لم تكن مجرد فن، بل كانت وسيلة للتعبير عن الهوية الثقافية والاجتماعية، ومصدرًا للفخر والاعتزاز لكل من عاصرها واستمتع بألحانها.
أثر الحرب في الموسيقا
تؤثر الحروب على تطور الموسيقا بشكل كبير، حيث تؤدي إلى فقدان الأشخاص الذين يحملون هذا التراث الغني ويحمونه، مما يسبب تلاشي المعارف والمهارات الموسيقية. الحرب في سوريا كانت لها تأثيرات مدمرة على جميع جوانب الحياة، والموسيقا لم تكن استثناءً. إرنستو ريناتو أتون راميريز، مساعد المديرة العامة لمنظمة “اليونسكو” للشؤون الثقافية، أكد على هذا الأثر المدمر في تقديمه لكتاب “الموسيقا التقليدية في سوريا” للدكتور حسان عباس. في هذا الكتاب، تحدث عباس عن الضياع الكبير الذي أصاب التنوع الموسيقي التقليدي بسبب الحرب. فقد أغلقت الأماكن التي كانت تُمارس فيها الموسيقا، وتشتت صانعوها في أصقاع الأرض بحثاً عن الأمان والاستقرار، مما جعل إعادة إحياء هذا التراث أمراً بالغ الصعوبة.
الموسيقيون والفنانون السوريون الذين كانوا يحملون مشاعل الثقافة والتراث وجدوا أنفسهم مضطرين للهروب من البلاد، تاركين وراءهم أدواتهم وآلاتهم وكل ما يرتبط بفنهم. هذه الهجرة الجماعية للموسيقيين أدت إلى ضياع جزء كبير من الهوية الموسيقية السورية، حيث أصبحت المعارف والمهارات المتعلقة بالموسيقا تنتقل بشكل أقل بين الأجيال الجديدة. الحرب لم تدمر فقط الأماكن المادية للموسيقى، بل أنها أصابت النسيج الاجتماعي والثقافي، وقطعت الصلات التي كانت تربط بين الفنانين والمجتمعات المحلية.
الأماكن التي كانت تزدحم بالموسيقا والألحان، باتت اليوم خالية وصامتة. الصالات والمسارح، التي كانت تحتضن الحفلات الموسيقية والأمسيات الفنية، تحولت إلى مبانٍ مهجورة أو دُمرت بالكامل. الفضاءات التي كانت تجمع الناس حول الموسيقا وتخلق نوعاً من التواصل الإنساني، أصبحت جزءاً من الذاكرة الجماعية المؤلمة.
رغم كل هذا الدمار، لا يزال هناك أمل في إعادة إحياء التراث الموسيقي السوري. الجهود المبذولة من قبل الموسيقيين والباحثين والمؤسسات الثقافية تستمر في محاولتها لحفظ وتوثيق ما تبقى من هذا التراث. هذه الجهود تحتاج إلى دعم واسع وتكاتف من الجميع لإعادة بث الحياة في الروح الموسيقية السورية، وإحياء الألحان التي كانت تعبر عن الفرح والحزن والأمل.
استغلال الأغنية الشعبية
أدى غياب الاستقرار والظروف الصعبة إلى ذائقة غير واعية للفنون، حيث انتشرت الأغاني الشعبية وتداخلت مع تراث الأغاني الآرامية القديمة. هذا التحول لم يكن مجرد صدفة، بل كان نتيجة لعدة عوامل اجتماعية وثقافية. في ظل تلك الظروف، لجأ الناس إلى الأغاني الشعبية كوسيلة للتعبير عن واقعهم المؤلم والمضطرب. الأغاني التي كانت تُغنى في الساحات والأفراح تحولت إلى مرايا تعكس الأحاسيس الجماعية للناس، ولأنها كانت أكثر سهولة في الفهم والتداول، انتشرت بسرعة وأصبحت جزءاً من الحياة اليومية. في نفس الوقت، تداخلت هذه الأغاني مع تراث الأغاني الآرامية القديمة، مما أضاف إليها عمقاً تاريخياً ونكهة ثقافية فريدة.
الأساليب الجديدة في الغناء، والتي ظهرت نتيجة للتفاعل بين الأغاني الشعبية والتراث القديم، ساهمت في تغيير الذوق العام بشكل ملحوظ. ظهرت أنماط موسيقية جديدة تجمع بين البساطة والعمق، وبدأ الجمهور يتذوق هذه التوليفات المستحدثة. تسببت الحرب في تشتت الموسيقيين والفنانين السوريين في جميع أنحاء العالم، مما جعل من الصعب الحفاظ على التراث الموسيقي الأصلي ونقله إلى الأجيال القادمة. هذا التشتت لم يكن فقط جسدياً، بل كان ثقافياً أيضاً، حيث فقدت الموسيقا جزءاً من هويتها الأصيلة وتحولت إلى أشكال متباينة حسب البيئات الجديدة التي استقر فيها الموسيقيون.
إرث سوريا الموسيقي أصبح مشرعاً على احتمالات لا متناهية بسبب هذه التغيرات. في الوقت الذي تمثل فيه الأغاني الشعبية رابطاً بين الماضي والحاضر، فإن التحدي الأكبر يكمن في كيفية الحفاظ على هذا التراث الغني وإعادة تفسيره بطريقة تواكب العصر. الموسيقيون الذين اضطروا لمغادرة البلاد حملوا معهم تراثهم، وبدأوا في نشره في بلدان المهجر، مما أضاف إلى التنوع الموسيقي العالمي. هذا الوضع المأساوي يمكن أن يحمل في طياته فرصة لإعادة اكتشاف الموسيقا السورية وتقديمها للعالم بوجه جديد، يجمع بين الأصالة والحداثة.
بهذه الطريقة، يمكن للموسيقى السورية أن تظل حية ومتجددة، وتستمر في تقديم قصصها وألحانها للعالم. الحفاظ على هذا التراث يتطلب جهوداً جماعية من الباحثين والموسيقيين والمهتمين بالثقافة، ليوفروا للأجيال القادمة نافذة على تاريخهم وثقافتهم الموسيقية الغنية. هذا الإرث الموسيقي، بتنوعه وثرائه، يمثل جزءاً لا يتجزأ من الهوية السورية، وهو قصة مستمرة تروى من جيل إلى جيل.
تطور الموسيقا السورية
مع مرور الزمن، شهدت الموسيقا السورية تطورات وتحولات كبيرة، تأثرت بشكل رئيسي بالتحولات السياسية والاجتماعية التي مرّت بها البلاد. في النصف الأول من القرن العشرين، كانت سوريا تتأرجح بين حالة من الاستقرار والاضطراب، حيث غاب الاستقرار الفكري وسادت الفوضى السياسية. هذه الفوضى تركت أثرها العميق على المشهد الموسيقي، حيث كان من الصعب على الموسيقيين والفنانين إيجاد بيئة مستقرة لتطوير أعمالهم. مع وصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة في عام 1963، بدأت الثقافة السورية تتخذ صبغة جديدة. البعث، الذي رفع شعارات العروبة والنهضة الثقافية، حاول جاهداً إيجاد هوية ثقافية جديدة للبلاد بعد سنوات من الاستعمار والتبعية.
إذاعة دمشق، التي تأسست قبل 25 عاماً من وصول البعث إلى السلطة، كانت شاهدة على هذه التحولات الثقافية والسياسية. منذ تأسيسها، ركزت الإذاعة على الموسيقا الجادة والملحنين المحترفين، مما ساهم في تطوير الموسيقا التقليدية السورية بشكل كبير. عبر أثير إذاعة دمشق، سُمع صوت الموسيقا السورية وهي تتطور وتزداد نضجاً، حيث استقطبت الإذاعة نخبة من الموسيقيين والملحنين الذين أسهموا بأعمالهم في إثراء التراث الموسيقي السوري.
في الستينيات، مع بدء بث التلفزيون السوري الرسمي، أُتيحت مساحة جديدة للفنون المختلفة، بما في ذلك الأعمال الكوميدية والموسيقية. كان لهذا التحول دور كبير في نشر الثقافة الموسيقية وإيصالها إلى جمهور أوسع. برامج مثل “صح النوم” و”حمام الهنا” لم تكن مجرد برامج ترفيهية، بل كانت تحتوي على فقرات موسيقية ساعدت في نشر الأغاني الشعبية والتقليدية. هذه الفترة شهدت أيضاً ظهور فنانين مثل نهاد قلعي ودريد لحام ورفيق سبيعي، الذين ساهموا في نشر الأغاني الشعبية من خلال أعمالهم التلفزيونية.
التلفزيون السوري لم يقتصر على بث الأغاني الشعبية فقط، بل أتاح أيضاً مساحة للموسيقى التقليدية، مما ساهم في الحفاظ على التراث الموسيقي السوري ونشره بين الأجيال الجديدة. هذا الدمج بين الموسيقا الشعبية والتقليدية ساهم في خلق هوية موسيقية سورية فريدة، تجمع بين الأصالة والحداثة. ومع مرور السنوات، استمرت الموسيقا السورية في التطور والتأثر بالتغيرات السياسية والاجتماعية، مما جعل منها مرآة تعكس تاريخ البلاد وحضارتها الغنية.
خريطة الموسيقا السورية
تتوزع الموسيقا في سوريا جغرافياً وعرقياً، مما يعكس التنوع الثقافي الغني للبلاد. هذا التنوع لا يقتصر فقط على الألحان والنغمات، بل يمتد ليشمل تاريخ وثقافات متعددة تجمعت على هذه الأرض عبر القرون. في درعا، القريبة من الحدود الأردنية، تتشابه الأنغام والألحان مع الموسيقا الأردنية، حيث تظهر في الأغاني والرقصات تأثيرات الجوار الجغرافي والعلاقات الاجتماعية المتينة بين السكان. في المقابل، موسيقى منطقة الجزيرة والقامشلي ودير الزور تتقارب بشكل كبير مع الطراز الموسيقي التركي، مما يعكس التأثير الثقافي التركي الذي طالما تداخل مع ثقافات المنطقة.
هذا الاندماج والتداخل يظهر بشكل جلي في الموسيقا الماردللية التي نشأت من خليط الإثنيات المختلفة كالتركمان، السريان، الأرمن، والأكراد، وأصبحت تعبيراً موسيقياً يعكس هذا التنوع الثقافي. كما تتنوع الموسيقا الكردية والإسلامية والمسيحية في سوريا، حيث تحمل كل منها طابعها الخاص وتعكس تقاليدها وتراثها العريق. الموسيقا العربية الكلاسيكية، التي تجد في مدينة حلب معقلها الأساسي، تبرز كأحد أرقى أشكال الموسيقا السورية، حيث تتميز بالموشحات والأدوار التي تغنى بألحان تأسر القلوب.
الموسيقا الشعبية والكلاسيكية، المرتبطتان عرقياً وجغرافياً، تشكلان العمود الفقري لهذا التنوع الموسيقي. الموسيقا الشعبية، التي تعكس حياة الناس اليومية واحتفالاتهم ومناسباتهم، تظل قريبة من القلب والمشاعر، وتحتفظ بطابعها الأصيل والبسيط. بينما الموسيقا الكلاسيكية، التي شهدت تطورات ملحوظة على أيدي العديد من الموسيقيين والملحنين الكبار، تمثل الجانب الأنيق والراقي للمشهد الموسيقي السوري. كلا النوعين يكملان بعضهما البعض، مما يخلق فسيفساء موسيقية تعكس غنى وتنوع التراث الثقافي السوري.
في النهاية، خريطة الموسيقا السورية ليست مجرد تمثيل لألحان وأنغام، بل هي قصة تُروى عن شعب حمل تراثه في قلبه وأورثه للأجيال القادمة. الموسيقا في سوريا ليست فقط فنوناً تُعزف، بل هي أصداء لآلاف السنين من التاريخ والتنوع الثقافي والعيش المشترك. إنها رمز للهوية والانتماء والذاكرة الجماعية التي تتجاوز الحدود الجغرافية والزمنية.
أثر شرائط الكاسيت
شهدت فترة ازدهار شرائط الكاسيت في النصف الثاني من القرن العشرين أول مرحلة تسجيل وأرشفة حقيقية للموسيقى الشعبية السورية من قبل الشعب نفسه. هذه الشرائط كانت بمثابة ثورة في عالم الموسيقا، حيث ساهمت في الحفاظ على الموسيقا الشعبية التي كانت مهمشة ومهددة بالاندثار. في زمن كانت فيه الأفكار البعثية والمدنية المتعالية تسيطر على المشهد الثقافي، لم يكن هناك احتضان حقيقي للتنوع الموسيقي الذي كان يعكس تنوع الهوية الثقافية في سوريا. هذا التجاهل أسهم في تهميش العديد من الأنماط الموسيقية الشعبية، لكن شرائط الكاسيت جاءت كأداة قوية لنقل وتوثيق هذا التراث الموسيقي الشعبي.
شرائط الكاسيت كانت صغيرة الحجم وسهلة الاستخدام، مما جعلها وسيلة مثالية لتسجيل الموسيقا وتناقلها بين الناس. بفضل هذه الشرائط، استطاع الناس تسجيل الحفلات والمناسبات الموسيقية في الأفراح والمناسبات المختلفة، مما أدى إلى توثيق تلك اللحظات ونقلها من جيل إلى جيل. أصبحت الموسيقا جزءاً من الحياة اليومية، يُستمع إليها في المنازل والأسواق والمقاهي، مما أسهم في نشرها والحفاظ على تنوعها.
الفكر البعثي الذي ساد في تلك الفترة لم يكن يدرك أهمية الحفاظ على هذا التنوع الموسيقي، وكان يتعامل مع الموسيقا الشعبية بنوع من التعالي والازدراء. ومع ذلك، تمكن الناس من استخدام شرائط الكاسيت لتحدي هذا التجاهل والتعالي، حيث قاموا بتسجيل ألحانهم وأغانيهم الخاصة، وحافظوا على هويتهم الثقافية من خلال هذه التسجيلات. شرائط الكاسيت لم تكن مجرد وسيلة ترفيهية، بل كانت أداة قوية لمقاومة التهميش الثقافي والحفاظ على التراث الموسيقي الشعبي.
لقد أثبتت شرائط الكاسيت أنها قادرة على تجاوز الحدود الجغرافية والسياسية، حيث انتقلت بين الأيدي وتم تداولها عبر المدن والقرى، مما ساهم في تعزيز الوحدة الثقافية بين أبناء الوطن. هذه الشرائط كانت بمثابة جسر يربط بين الماضي والحاضر، ويوثق للتجارب والأحداث الثقافية التي عايشها الناس. اليوم، تعتبر هذه الشرائط كنزاً ثقافياً يحتفظ بذاكرة الأمة ويعيد إحياء ألحانها وتراثها.
في النهاية، يمكن القول إن شرائط الكاسيت كانت عاملاً حاسماً في الحفاظ على التراث الموسيقي الشعبي في سوريا. لقد مكنت الناس من توثيق موسيقاهم الخاصة ونقلها للأجيال القادمة، مما ساهم في إحياء هذا التراث الغني والمميز. إنها قصة نجاح تروي كيف استطاع الناس أن يحافظوا على موسيقاهم وثقافتهم في وجه التحديات والصعوبات.
ختاماً
الموسيقا السورية تعكس تاريخاً طويلاً ومعقداً من التحولات والتطورات التي مرت بها البلاد عبر العصور. هذا التراث الموسيقي الغني يحتاج إلى جهود مستمرة للحفاظ عليه ونقله للأجيال القادمة، لأن كل نغمة وكل لحن فيها يحمل قصة وحكاية من تاريخ سوريا العريق. الموسيقا ليست مجرد ألحان وأنغام، بل هي وسيلة لتوحيد الناس والاحتفاء بالتنوع الثقافي الذي يميز سوريا. إنها تلك اللغة العالمية التي تتجاوز الحواجز وتربط بين الأجيال، حاملة معها عبق الماضي وأمل المستقبل.
الموسيقا في سوريا، بتنوعها واختلافها، تعكس الروح الجماعية والتجارب المشتركة التي عاشها الشعب السوري. من أوغاريت إلى حلب ودمشق والجزيرة، تحمل الموسيقا أصداء العصور والأزمنة، وتجسد الأمل والفرح والحزن والألم في آن واحد. إنها قصة تُروى عن أصوات وأنغام تشكل جزءاً من ذاكرة الأمة، ترويها الأجيال بكل فخر واعتزاز.
العمل على صون هذا التراث ليس مجرد واجب، بل هو ضرورة للحفاظ على الهوية الثقافية والوطنية. الموسيقا السورية كانت وستظل جزءاً لا يتجزأ من هوية سوريا، وهي تعكس التنوع والغنى الذي يميز المجتمع السوري. في ظل الظروف الصعبة والتحديات التي تواجهها البلاد، تبقى الموسيقا ذلك الضوء الذي يبعث الأمل والتفاؤل، ويجمع بين قلوب الناس مهما تباعدت المسافات. الحفاظ على هذا التراث الموسيقي والعمل على نشره وتعريف الأجيال القادمة به هو السبيل للحفاظ على جزء هام من ذاكرة وتاريخ سوريا الغني.