اللامركزية في سوريا: الفرص والمخاطر في مرحلة ما بعد النزاع

يشير مفهوم اللامركزية في العلوم السياسية إلى عملية نقل السلطة والمسؤولية من الحكومة المركزية إلى مستويات أدنى، مثل الحكومات المحلية أو الإقليمية. وقد اكتسب هذا المفهوم أهمية متزايدة في النقاشات المتعلقة بمستقبل الدول التي تشهد نزاعات، وخاصة سوريا التي شهدت صراعًا ممتدًا وسقوط نظام مركزي استمر لعقود. فبعد سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024، برزت فرصة لإعادة هيكلة نظام الحكم في البلاد، وأصبح تطبيق اللامركزية أحد الخيارات المطروحة بقوة. تهدف هذه المقالة إلى استكشاف إمكانات اللامركزية في سوريا مع فحص المخاطر الكامنة في تطبيقها ضمن هذا السياق الاجتماعي والسياسي المعقد. سيتناول التحليل تعريف اللامركزية وأنواعها المختلفة، وسيتطرق إلى تاريخ سوريا السياسي مع التركيز على تجارب الحكم المركزي ومحاولات تطبيق اللامركزية السابقة. كما سيقوم بتقييم الوضع الراهن في سوريا وتأثيره على فرص تطبيق اللامركزية، بالإضافة إلى استعراض الحجج المؤيدة والمعارضة لهذا التوجه، وتحليل تجارب دول أخرى طبقت اللامركزية بعد نزاعات مماثلة، وانتهاءً بآراء الخبراء والمحللين السياسيين حول مستقبل سوريا في ظل سيناريوهات مختلفة للامركزية.
تعريف اللامركزية في العلوم السياسية
يُعد مصطلح اللامركزية مظلة واسعة تجمع تحتها العديد من المفاهيم المختلفة في العلوم السياسية. فهي تشير عمومًا إلى عملية نقل السلطات والمسؤوليات من الحكومة المركزية إلى مستويات حكومية أدنى تتمتع بقدر من الاستقلالية. ومع ذلك، يلاحظ أن نفس المصطلح يُستخدم غالبًا لوصف أمور مختلفة، مما يؤدي إلى تباين في الأطر المفاهيمية والتطبيقات العملية.
يمكن فهم اللامركزية على أنها تفويض الحكومة المركزية (الوطنية) لوظائف محددة، بكل ما يترتب على ذلك من سمات إدارية وسياسية واقتصادية، إلى حكومات محلية (بلدية) مستقلة عن المركز وذات سيادة ضمن حدود قانونية. ويُشار إليها أيضًا بأنها نقل للسلطات من الحكومة المركزية إلى مستويات أدنى في التسلسل الهرمي السياسي والإداري والإقليمي. ويمكن أن يتخذ هذا النقل شكلين رئيسيين: اللامركزية الإدارية (المعروفة أيضًا باسم عدم التركيز)، والتي تشير إلى النقل إلى سلطات حكومية مركزية ذات مستوى أدنى، أو إلى سلطات محلية أخرى مسؤولة أمام الحكومة المركزية. وفي المقابل، تشير اللامركزية السياسية (الديمقراطية) إلى نقل السلطة إلى جهات فاعلة تمثيلية ومسؤولة أمام المواطنين، مثل الحكومات المحلية المنتخبة.
يُستخدم مصطلح اللامركزية لتغطية مجموعة واسعة من عمليات نقل “مركز صنع القرار” من الحكومات المركزية إلى الحكومات الإقليمية أو البلدية أو المحلية. ويمكن أن تشمل إصلاحات اللامركزية تحويل البنية التحتية المؤسسية المحلية لإدارة الموارد الطبيعية التي تعتمد عليها إدارة الغابات المحلية. كما يُنظر إلى اللامركزية على أنها وسيلة لإتاحة مشاركة الناس والحكومات المحلية.
تتضمن أنواع اللامركزية الرئيسية ما يلي:
- اللامركزية السياسية: تهدف إلى منح المواطنين أو ممثليهم المنتخبين مزيدًا من القوة في صنع القرارات العامة. وغالبًا ما ترتبط بالسياسة التعددية والحكومة التمثيلية، ولكنها يمكن أن تدعم أيضًا التحول الديمقراطي من خلال منح المواطنين مزيدًا من النفوذ في صياغة وتنفيذ السياسات. ويتطلب هذا النوع غالبًا إصلاحات دستورية أو قانونية، وتطوير أحزاب سياسية تعددية، وتقوية الهيئات التشريعية، وإنشاء وحدات سياسية محلية.
- اللامركزية الإدارية: تسعى إلى إعادة توزيع السلطة والمسؤولية والموارد المالية لتوفير الخدمات العامة بين مستويات مختلفة من الحكومة. وهي نقل مسؤولية تخطيط وتمويل وإدارة وظائف عامة معينة من الحكومة المركزية ووكالاتها إلى الوحدات الميدانية للوكالات الحكومية، أو الوحدات أو المستويات الحكومية التابعة، أو السلطات أو الشركات العامة شبه المستقلة. وتشمل ثلاثة أشكال رئيسية: عدم التركيز (نقل المسؤوليات داخل الحكومة المركزية)، والتفويض (نقل المسؤوليات إلى منظمات شبه مستقلة)، والتطوير (نقل المسؤوليات إلى مستويات فرعية وطنية).
- اللامركزية المالية: تتضمن توزيع سلطات فرض الضرائب وتوليد الإيرادات على مستويات أخرى من الحكومة، مثل منح الحكومات المحلية سلطة جمع واستبقاء الموارد المالية للوفاء بمسؤولياتها. ويمكن أن تتخذ أشكالًا عديدة، بما في ذلك التمويل الذاتي من خلال رسوم المستخدمين، وترتيبات التمويل المشترك، وتوسيع الإيرادات المحلية من خلال الضرائب.
- اللامركزية الاقتصادية أو السوقية: تُعد أكمل أشكال اللامركزية من منظور الحكومة، وتشمل الخصخصة وإلغاء القيود التنظيمية، حيث يتم نقل مسؤولية الوظائف من القطاع العام إلى القطاع الخاص. وهذا يسمح للشركات والمجموعات المجتمعية والمنظمات غير الحكومية بتنفيذ وظائف كانت في السابق مسؤولية الحكومة.
من الأهمية بمكان التمييز بين هذه الأنواع المختلفة من اللامركزية، حيث أن لكل منها آثار مختلفة على الحوكمة والمخاطر المحتملة. وسيعتمد نوع اللامركزية الذي يتم تبنيه على الهيكل السياسي والقضايا الإدارية للبلد.
نظرة على تاريخ سوريا السياسي واللامركزية
شهد تاريخ سوريا السياسي فترات طويلة من الحكم المركزي تحت سيطرة إمبراطوريات مختلفة ونظام البعث. فمنذ القرن السادس عشر وحتى أوائل القرن العشرين، حكمت الإمبراطورية العثمانية سوريا وقسمت أراضيها إلى وحدات إدارية مع نظام إدارة مركزي. وعلى الرغم من بعض الإصلاحات الإدارية في القرن التاسع عشر، إلا أن السلطة ظلت مركزية في يد السلطان.
بعد الحرب العالمية الأولى، وضعت سوريا تحت الانتداب الفرنسي عام 1923. وقامت فرنسا في البداية بتقسيم سوريا إلى عدة وحدات إدارية على أسس طائفية بهدف “فرق تسد.” إلا أنه بعد الاستقلال عام 1946، تبنت سوريا إلى حد كبير نظام جمهورية عربية موحدة مع لامركزية إدارية.
من عام 1963 وحتى عام 2024، حكم حزب البعث سوريا، وتولت عائلة الأسد المجرمة السلطة بشكل حصري منذ عام 1971 . وأرسى الطاغية المقبور حافظ الأسد، الذي وصل إلى السلطة عام 1971، نظام حكم مركزيًا للغاية يعتمد على الأمن والولاء . وحافظ هذا “الدولة الظل” على سيطرة محكمة على السلطة، وغالبًا ما كانت المؤسسات الرسمية مجرد واجهة . واستمر ابنه الطاغية بشار الأسد على هذا النهج المركزي، الذي أصبح قمعيًا بشكل متزايد .
وعلى صعيد محاولات تطبيق اللامركزية أو النقاشات حولها في تاريخ سوريا، يمكن الإشارة إلى ما يلي:
- دستور عام 1920: عقب الانفصال عن الإمبراطورية العثمانية، كان الدستور السوري عام 1920 يهدف إلى إنشاء اتحاد يتمتع بلامركزية سياسية وإدارية كرد فعل على المركزية الشديدة في عهد العثمانيين . إلا أن هذا الدستور لم يُنفذ بالكامل بسبب الاحتلال الفرنسي .
- دستور عام 1950: بعد الاستقلال عن فرنسا، تضمن دستور عام 1950 نصوصًا متقدمة بشأن اللامركزية دون تسميتها صراحة، ربما خوفًا من تداعيات النموذج الفرنسي . ونص الدستور على لامركزية إدارية تنفذها مجالس محافظات منتخبة بأغلبية الأصوات . ومع ذلك، كانت سلطات هذه المجالس محدودة، واقتصرت بشكل أساسي على الإشراف على الخدمات المحلية .
- سياسات الطاغية بشار الأسد: أطلق الطاغية بشار الأسد سياسة لامركزية، لكنها اقتصرت على اللامركزية الإدارية، والتي يرى العديد من المحللين أنها كانت سطحية وغير فعالة، وربما ساهمت في الظروف التي أدت إلى الحرب الأهلية . وقد تعرض القانون رقم 107 للإدارة المحلية لعام 2011، الذي صدر استجابة للاحتجاجات، لانتقادات بسبب عدم تحقيقه لأهدافه، حيث ظلت الحوكمة مركزية للغاية على أرض الواقع .
أما عن الأسباب التاريخية لتبني المركزية في سوريا، فيمكن إرجاعها إلى عدة عوامل، منها الرغبة في رفض التقسيمات التي فرضها الخارج والحفاظ على الوحدة الوطنية، بالإضافة إلى الطبيعة السلطوية للأنظمة الحاكمة . فقد سعى القادة في منتصف القرن العشرين إلى رفض التقسيمات التي أحدثها الفرنسيون خلال فترة الانتداب . كما أن أيديولوجية حزب البعث القائمة على القومية العربية فضلت دولة قوية وموحدة . بالإضافة إلى ذلك، خشيت الأنظمة السلطوية، مثل نظام البعث تحت حكم الأسدين، من أن تكون اللامركزية أداة للديمقراطية وتهديدًا لسلطتهم . وقد كان إعطاء الأولوية للأمن والولاء للنظام على حساب التفويض الحقيقي للسلطة عائقًا مستمرًا أمام تطبيق اللامركزية .
الوضع الراهن في سوريا وتأثيره على اللامركزية
تتميز سوريا بتنوع ديموغرافي كبير يشمل مجموعات عرقية وطائفية مختلفة . فقبل الحرب، كانت الغالبية العظمى من السكان من العرب (حوالي 90%)، مع وجود أقليات كردية (حوالي 9%) وأرمن وشركس وتركمان بأعداد أقل . أما من الناحية الدينية، فيشكل المسلمون السنة حوالي 74%، والعلويون حوالي 12%، والمسيحيون حوالي 10%، والدروز حوالي 3% . وتتوزع هذه المجموعات بشكل غير متساوٍ جغرافيًا، حيث يتركز الأكراد في الشمال الشرقي، والعلويون في المناطق الساحلية، والدروز في الجنوب .
وقد أثر الصراع السوري المستمر بشكل كبير على التركيبة السكانية للبلاد، حيث أدى إلى نزوح هائل للسكان داخليًا وخارجيًا . كما أفرز الصراع مناطق تتمتع بحكم ذاتي بحكم الأمر الواقع ولها هياكل حكم خاصة بها . وأبرز هذه المناطق:
- الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا (روج آفا): أعلنت هذه المنطقة، ذات الأغلبية الكردية، حكمًا ذاتيًا قائمًا على نموذج الكونفدرالية الديمقراطية . وقد أنشأت هذه الإدارة مجالس إقليمية وهياكل حكم محلية، مما أوجد إطارًا لامركزيًا يتيح مشاركة مجتمعية واسعة .
- محافظة السويداء: في الجنوب، فرضت الطائفة الدرزية في محافظة السويداء درجة من الحكم الذاتي، ومنعت قوات الجيش السوري من دخول المنطقة .
يشير وجود هذه المناطق ذات الحكم الذاتي بحكم الأمر الواقع، وخاصة الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، إلى نموذج عملي للحكم اللامركزي ويسلط الضوء على تطلعات بعض المجموعات العرقية للحكم الذاتي . ويصر القادة الأكراد على أن اللامركزية شرط أساسي لاندماجهم في حكومة سورية جديدة . كما أن تنوع نماذج الحكم في المناطق المختلفة يشير إلى أن اتباع نهج واحد يناسب الجميع في حكم سوريا قد لم يعد ممكنًا . فالواقع الحالي المتمثل في التشرذم يشير إلى أن أي تسوية سياسية مستقبلية ستحتاج إلى معالجة ديناميكيات القوة القائمة والرغبة في السيطرة المحلية في بعض المناطق.
حجج مؤيدة لتطبيق اللامركزية في سوريا
يرى المؤيدون أن تطبيق اللامركزية في سوريا يمكن أن يكون وسيلة لمعالجة تنوع البلاد وتعزيز الشمولية . فاللامركزية تُعتبر “الحل الأمثل لسوريا” من قبل البعض، الذين يؤكدون على ضرورة تضمينها في الدستور بمشاركة جميع أطياف المجتمع لإنشاء دولة مدنية تحتضن جميع السوريين . كما أنها تُعتبر نموذج الحكم الأمثل لمجتمع متنوع مثل سوريا .
يمكن أن تؤدي اللامركزية إلى تمكين المجتمعات المحلية وضمان تمثيلها في عمليات صنع القرار . فالحكم اللامركزي يتيح مشاركة محلية أكبر في صنع القرارات، وهو ما يفضله العديد من السوريين الذين عانوا في ظل النظام المركزي . كما يُنظر إلى اللامركزية على أنها وسيلة لحماية حقوق المجتمعات المتنوعة، بما في ذلك السريان والأرمن، من خلال ضمان تمثيل ثقافاتهم وأديانهم علنًا وحماية حقوقهم دستوريًا . ويمكن أن تساعد في إنهاء دائرة العنف من خلال تعزيز الشمولية .
ويرى المؤيدون أيضًا أن اللامركزية يمكن أن تؤدي إلى تقديم خدمات أكثر كفاءة وتلبية احتياجات محلية بشكل أفضل . ومن خلال مواءمة مبادرات التعافي مع الاحتياجات المحلية والسياقات الثقافية والواقع الاقتصادي، يمكن أن تجعل اللامركزية جهود التعافي المبكر أكثر ملاءمة وتأثيرًا . كما يمكن أن تكون بمثابة محفز للتعافي المبكر والتنمية من خلال تعزيز المشاركة والملكية المحلية في عملية التنمية . ويمكن أن يؤدي تمكين المجتمعات المحلية من إدارة مواردها الخاصة إلى استثمارات مصممة خصيصًا لتلبية احتياجات المجتمع . بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تخلق اللامركزية بيئة أكثر أمانًا تشجع عودة اللاجئين والنازحين .
وفي بلد منقسم بشدة بسبب الصراع، قد تقدم اللامركزية إحدى الوسائل القليلة للحفاظ على وحدته من خلال إشراك مراكز القوة المحلية المتنافسة وتلبية رغبات المواطنين بشكل أفضل في توزيع أكثر عدلاً لموارد البلاد .
وعلى صعيد الحد من النزاعات، يمكن أن توفر اللامركزية قنوات سياسية للمجموعات المختلفة من خلال ضمان تمثيل الأقليات، مما يوفر قنوات سياسية يمكن من خلالها التوفيق بين الاختلافات . كما أن زيادة السيطرة المحلية على القضايا التي تؤثر على الحياة اليومية للمواطنين يمكن أن تطمئن مجموعات الأقليات بأن مخاوفها ذات الأولوية ستؤخذ في الاعتبار .
إلا أن هذه الحجج تواجه تحديات، مثل الحاجة إلى مؤسسات مركزية قوية للحفاظ على الوحدة الوطنية وضمان التوزيع العادل للموارد .
المخاطر المحتملة لتطبيق اللامركزية في سوريا
على الرغم من الفوائد المحتملة للامركزية في سوريا، إلا أن هناك مخاطر كبيرة مرتبطة بتطبيقها . فهناك خطر كبير من زيادة تفتيت البلاد على أسس عرقية أو طائفية . ويخشى البعض من أن تؤدي اللامركزية، وخاصة الفيدرالية، إلى “تقسيم البلاد” و”بلقنتها” . كما أن إنشاء مناطق تتمتع بحكم ذاتي متميز يمكن أن يزيد من الصراعات بين الأعراق والطوائف . فقد تشجع اللامركزية السياسيين المحليين على اتخاذ مواقف متشددة دفاعًا عن الأولويات الإقليمية، مما يؤدي إلى تعميق الاستقطاب السياسي .
يمكن أن تؤدي اللامركزية إلى إضعاف سلطة الدولة المركزية وقدرتها على الحفاظ على الوحدة الوطنية والسلامة الإقليمية . فالحكومة السورية الانتقالية الجديدة، على سبيل المثال، تعتبر أي اقتراح يتعلق بالفيدرالية أو اللامركزية “خطًا أحمر” لوحدة واستقرار سوريا . كما أن نفوذ القوى الإقليمية والدولية يمكن أن يؤدي إلى تفاقم الانقسامات داخل سوريا اللامركزية . فقد تدعم جهات خارجية تطلعات مناطق معينة لتحقيق أجنداتها الخاصة، مما قد يؤدي إلى الانفصال بدلًا من التعاون .
وتُعد التحديات المتعلقة بالتوزيع العادل للموارد واحتمال حدوث تفاوتات إقليمية من المخاوف الكبيرة . فقد تنشأ نزاعات حول السيطرة على الموارد مثل النفط والمياه بين المناطق المختلفة والحكومة المركزية . وهناك أيضًا خطر من استيلاء النخب المحلية على السلطة وتقويض العمليات الديمقراطية على المستوى المحلي . فاللامركزية يمكن أن تكون أداة للهيمنة أو وسيلة جديدة لسلوكيات البحث عن الريع .
ويرى العديد من السوريين أن الفيدرالية أو حتى اللامركزية الواسعة هي فرض خارجي يهدف إلى تقسيم البلاد، ويشيرون إلى أوجه تشابه مع الوضع في العراق ما بعد صدام حسين .
أما عن موقف الحكومة السورية الانتقالية الحالية، فهي تعارض بشدة فكرة إقامة نظام فيدرالي وتطمح إلى إنشاء نظام سياسي مركزي . وتفضل الحفاظ على نظام مركزي لضمان وحدة سوريا وبناء مؤسسات الدولة . وعلى الرغم من إمكانية تطبيق بعض اللامركزية الإدارية، إلا أن الفيدرالية أو أي حكم لامركزي قائم على أسس عرقية أو عنصرية أو دينية يعتبر “خطًا أحمر” .
دراسات حالة: تجارب دول أخرى في اللامركزية بعد النزاعات
يقدم تحليل تجارب دول أخرى طبقت اللامركزية بعد نزاعات مماثلة دروسًا قيمة لسوريا .
- التجارب الناجحة:
- أوغندا: سعت أوغندا، بعد سنوات من الحرب الأهلية، إلى تحقيق لامركزية قائمة على الديمقراطية الشعبية، وانتقلت مباشرة إلى المستوى المحلي . وقد لعبت الحكومات المحلية اللامركزية دورًا هامًا في تحسين الحوكمة وتقديم الخدمات . ومع ذلك، ظلت الاستقلالية المالية للحكومات المحلية محدودة، حيث جاء معظم الإيرادات من الحكومة الوطنية .
- مقدونيا: شكل الهيكل الأكثر لامركزية عنصرًا حاسمًا في الحل السياسي للصراع في مقدونيا . وقد استُخدمت اللامركزية لتحسين العلاقات بين الأعراق من خلال منح الجماعات ذات التركيز الجغرافي قدرًا أكبر من الحكم الذاتي .
- سيراليون: تُعتبر سيراليون مثالًا إيجابيًا على مساهمة اللامركزية في إعادة الإعمار بعد الصراع من خلال تفويض الوظائف والمال والسلطات السياسية والإدارية . وقد كان لهذا تأثير إيجابي على جوانب التنمية البشرية مثل الصحة والتعليم وإمدادات المياه .
- اليمن: يُعد الصندوق الاجتماعي للتنمية في اليمن مثالًا لمبادرة لامركزية ناجحة، ويُعزى ذلك إلى نهجه القائم على ملكية أصحاب المصلحة وحياده السياسي في تخصيص الموارد .
- التحديات والإخفاقات:
- جمهورية الكونغو الديمقراطية: على الرغم من الإصلاحات في عام 2006، أدت اللامركزية في جمهورية الكونغو الديمقراطية إلى تدهور الحوكمة، مع زيادة الاستغلال المفترس والمركزية الإقليمية وانعدام المساءلة والبحث عن الريع من قبل النخب الإقليمية . ويرجع ذلك جزئيًا إلى فشل الإصلاحات الرسمية في التأثير على المؤسسات الحاكمة غير الرسمية .
- أفغانستان والعراق: أظهر كل من أفغانستان والعراق، في أعقاب الصراع، ميلًا نحو زيادة المركزية بدلًا من اللامركزية .
- كولومبيا: تشير الأبحاث إلى أن اللامركزية في كولومبيا تزامنت مع زيادة العنف .
- تحديات عامة: واجهت العديد من الدول النامية التي حاولت تطبيق اللامركزية مشاكل تنفيذية خطيرة، غالبًا بسبب عدم كفاية الدعم المركزي، والمواقف المركزية المتأصلة، والتصميم غير المناسب، والفشل في نقل موارد مالية كافية إلى الكيانات المحلية . كما يظل بناء القدرات على المستوى المحلي مشكلة رئيسية .
تُظهر النتائج المختلطة من دراسات الحالة الدولية مدى تعقيد تطبيق اللامركزية في سياقات ما بعد الصراع. ويمكن لسوريا أن تتعلم من النجاحات، مثل أهمية الشمولية وتلبية الاحتياجات المحلية (كما هو الحال في سيراليون وأوغندا المحتملة)، ومن الإخفاقات، مثل مخاطر تفاقم التوترات العرقية وتحديات ضعف الحوكمة والاستيلاء على الموارد (كما في جمهورية الكونغو الديمقراطية). ويقدم السياق السوري، بتنوعه الطائفي العميق وتورط العديد من الجهات الفاعلة الخارجية، تحديات فريدة تتطلب اتباع نهج مصمم خصيصًا لتلبية احتياجاته.
آراء الخبراء والمحللين السياسيين حول مستقبل اللامركزية في سوريا
يتباين آراء الخبراء والمحللين السياسيين بشأن مستقبل سوريا في ظل سيناريوهات مختلفة لتطبيق اللامركزية . فيرى العديد من المثقفين والناشطين السوريين أن نظامًا لامركزيًا ضروري لحماية حقوق المجتمعات المتنوعة في سوريا بعد سقوط نظام الأسد . ويجادلون بأن دولة مدنية علمانية لامركزية ضرورية لضمان الشمولية ومنع العودة إلى الاستبداد . وغالبًا ما يُنظر إلى تجربة الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا (روج آفا) على أنها نموذج عملي للحكم اللامركزي .
إلا أن هناك مخاوف كبيرة بشأن احتمال أن تؤدي اللامركزية إلى تفتيت سوريا . فالحكومة الانتقالية الجديدة، على سبيل المثال، تعارض بشدة الفيدرالية وتفضل دولة موحدة، ربما مع بعض اللامركزية الإدارية . وتعطي الأولوية لوحدة سوريا وإعادة بناء مؤسسات الدولة المركزية .
وقد اقترح الخبراء نماذج مختلفة لحكم سوريا في المستقبل، بما في ذلك “الفيدرالية التعاونية” التي تهدف إلى تحقيق توازن بين المركزية واللامركزية . ويواصل قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بقيادة الأكراد الدعوة إلى سوريا علمانية لامركزية، وتسعى إلى شكل من أشكال الحكم الذاتي ضمن إطار دولة موحدة . وقد أعرب قائدها عن استعداده للاندماج مع وزارة الدفاع الوطنية ولكن ككتلة عسكرية مستقلة ، وهو اقتراح رفضه وزير الدفاع الذي يصر على هيكل عسكري موحد تحت قيادة مركزية .
ويرى بعض المحللين أن اللامركزية السياسية والاقتصادية، بما في ذلك وضع خاص للمناطق الكردية، أصبحت شرطًا ضروريًا لحل الصراع . ويجادلون بأن نموذجًا لامركزيًا، على الرغم من صعوبة تنفيذه، قد يكون الوسيلة الوحيدة للحفاظ على وحدة البلاد . كما يُنظر إلى دور الجهات الفاعلة الخارجية، وخاصة روسيا والولايات المتحدة، على أنه مهم في تشكيل مستقبل الحكم في سوريا، بما في ذلك احتمال الفيدرالية .
وعلى صعيد المواقف المختلفة بين الجماعات العرقية والدينية تجاه اللامركزية، فقد أظهر الأكراد والدروز عمومًا دعمًا أقوى للامركزية، ويرجع ذلك على الأرجح إلى تجاربهم في ظل نظام الأسد المركزي ومستويات الحكم الذاتي الحالية في مناطق معينة . أما العلويون، الذين كانوا مهيمنين في النظام السابق، فقد يكونون أكثر مقاومة للامركزية لأنها قد تقلل من سلطتهم .
أما عن التأثير المحتمل لموقف الحكومة الانتقالية الجديدة على مستقبل اللامركزية، فمن المرجح أن يكون موقف الحكومة الانتقالية القوي ضد الفيدرالية وتأكيدها على دولة موحدة عاملاً رئيسيًا في تشكيل المناقشات والقرارات المتعلقة بمستقبل حكم سوريا . وتتمثل أولويتهم في إقامة دولة موحدة وإعادة بناء مؤسساتها قبل النظر في أشكال أكثر جذرية من اللامركزية . ومع ذلك، فقد تعهدوا أيضًا بحماية حقوق جميع مكونات سوريا .
خاتمة
تُعد قضية اللامركزية في سوريا مسألة معقدة ومتعددة الأوجه، تتأثر بعوامل تاريخية وديموغرافية وسياسية واقتصادية. فبينما تحمل اللامركزية في طياتها إمكانات كبيرة لمعالجة تنوع المجتمع السوري وتعزيز الحكم المحلي وتمكين المجتمعات المحلية، فإنها تنطوي أيضًا على مخاطر جمة، وعلى رأسها خطر تفكك البلاد وزيادة حدة الصراعات العرقية والطائفية وإضعاف سلطة الدولة المركزية. وتُظهر تجارب الدول الأخرى التي طبقت اللامركزية بعد نزاعات مماثلة أن النجاح ليس مضمونًا وأن النتائج يمكن أن تكون مختلطة. وفي ظل تباين آراء الخبراء والمحللين السياسيين حول مستقبل سوريا في ظل سيناريوهات مختلفة للامركزية، يصبح من الضروري تبني نهج حذر وشامل يوازن بين تطلعات المجتمعات المحلية وضرورة الحفاظ على الوحدة الوطنية والاستقرار. ويتطلب تحقيق ذلك حوارًا وطنيًا واسعًا يشارك فيه جميع أطياف المجتمع السوري، مع الاستفادة من الدروس المستخلصة من التجارب الدولية وتكييفها لتناسب الظروف الفريدة لسوريا في مرحلة ما بعد النزاع.
الجداول القيّمة
الجدول 1: أنواع اللامركزية وآثارها
نوع اللامركزية | الخصائص الرئيسية | الفوائد المحتملة | المخاطر المحتملة |
اللامركزية السياسية | منح المواطنين وممثليهم المنتخبين مزيدًا من القوة في صنع القرارات العامة | تعزيز المشاركة الديمقراطية، زيادة المساءلة، تلبية احتياجات متنوعة بشكل أفضل | خطر عدم الاستقرار السياسي، احتمال استيلاء النخب المحلية على السلطة |
اللامركزية الإدارية | إعادة توزيع السلطة والمسؤولية والموارد المالية بين مستويات الحكومة المختلفة | تحسين كفاءة تقديم الخدمات، استجابة أفضل للاحتياجات المحلية، تعزيز التنمية المحلية | خطر عدم التنسيق بين المستويات الحكومية، احتمال الازدواجية في العمل |
اللامركزية المالية | توزيع سلطات فرض الضرائب وتوليد الإيرادات على مستويات حكومية أدنى | زيادة الاستقلالية المالية للحكومات المحلية، تحسين إدارة الموارد المحلية، تعزيز التنمية الاقتصادية المحلية | خطر عدم المساواة في توزيع الموارد، احتمال الفساد على المستوى المحلي |
اللامركزية الاقتصادية/السوقية | نقل مسؤولية الوظائف من القطاع العام إلى القطاع الخاص من خلال الخصخصة وإلغاء القيود التنظيمية | زيادة الكفاءة الاقتصادية، تحفيز الاستثمار، تقليل العبء على الحكومة | خطر تفاقم التفاوتات الاجتماعية، احتمال احتكار القطاع الخاص |
الجدول 2: محاولات تاريخية لتطبيق اللامركزية في سوريا
الفترة/الدستور | نوع اللامركزية المتوخاة | الأحكام/الإجراءات الرئيسية | درجة التنفيذ | النتائج/أسباب النجاح أو الفشل |
دستور 1920 | سياسية وإدارية | إنشاء اتحاد يتمتع بلامركزية سياسية وإدارية | لم ينفذ بالكامل | الاحتلال الفرنسي |
دستور 1950 | إدارية | لامركزية إدارية تنفذها مجالس محافظات منتخبة | جزئي | سلطات محدودة للمجالس، هيمنة الحكومة المركزية |
قانون الإدارة المحلية 2011 | إدارية | يهدف إلى تفويض السلطة للوحدات الإدارية المحلية | جزئي | انتقادات واسعة لعدم تحقيقه أهداف اللامركزية الحقيقية، بقاء الحوكمة مركزية |
الجدول 3: دراسات حالة دولية حول اللامركزية بعد النزاعات (مختارة)
الدولة | طبيعة النزاع | نوع اللامركزية المطبقة | النتائج الرئيسية | الدروس المستفادة لسوريا |
أوغندا | حرب أهلية | لامركزية إدارية وسياسية | دور إيجابي للحكومات المحلية في تقديم الخدمات، لكن الاستقلالية المالية محدودة | أهمية بناء القدرات المحلية، ضرورة تحقيق توازن بين الاستقلالية المحلية والسيطرة المركزية |
مقدونيا | صراع عرقي | لامركزية سياسية وإدارية | ساهمت في حل سياسي وتحسين العلاقات بين الأعراق | يمكن أن تكون اللامركزية جزءًا من حل سياسي شامل، لكنها تتطلب ضمانات لحقوق جميع المجموعات |
جمهورية الكونغو الديمقراطية | نزاعات متعددة | لامركزية إدارية وسياسية | تدهور الحوكمة، زيادة الاستغلال والمركزية الإقليمية | خطر استيلاء النخب المحلية على السلطة، أهمية معالجة المؤسسات غير الرسمية |
سيراليون | حرب أهلية | لامركزية إدارية وسياسية ومالية | ساهمت في إعادة الإعمار وتحسين تقديم الخدمات | يمكن أن تساهم اللامركزية الشاملة في التعافي بعد الصراع، لكنها تتطلب دعمًا دوليًا وتخطيطًا دقيقًا |