سيرة ذاتية

عدنان المالكي: من الشاغور إلى قمة المجد العسكري

عدنان بن شمس الدين المالكي، وُلد عام 1919 في حي الشاغور بدمشق، من عائلة كبيرة تعود أصولها إلى الحجاز. والده شمس الدين كان تاجراً معروفاً وأحد ممولي الكتلة الوطنية في زمن الانتداب الفرنسي، بينما جده الأكبر، يوسف، كان مفتي المذهب المالكي بدمشق في القرن الثامن عشر. نشأ المالكي في بيئة غنية بالتراث الديني والثقافي، ما شكَّل جزءاً كبيراً من شخصيته وتوجهاته المستقبلية.

منذ صغره، أبدى عدنان تفوقاً دراسياً ملحوظاً واهتماماً كبيراً بالجندية. كان شغوفاً بمطالعة سيرة أبطال التاريخ العسكري ودراسة المعارك الحربية الكبرى. اجتاز المراحل الدراسية بتفوق، وبرز بين أقرانه بقدراته الذهنية والثقافية. التحق بالكلية العسكرية في حمص فور إنهائه المرحلة الثانوية عام 1937، وتخرج منها عام 1939 برتبة مرشح ضابط. لم يكن المالكي مجرد طالب في الكلية، بل كان يتميز بروح القيادة والنشاط، مما جعله محط أنظار قادته وزملائه.

عقب تخرجه، التحق عدنان المالكي بجيش الشرق الفرنسي وخدم في قطاعات مختلفة. عُيّن مدرباً في الكلية الحربية، حيث أظهر قدرات تدريبية عالية ونشر الروح الوطنية بين مرؤوسيه. هذا النشاط الوطني أثار قلق القادة الفرنسيين، فوضعوه تحت الرقابة الشديدة، إلا أن حماسه الوطني لم يهدأ بل زاد. كان يذكّر الجنود دوماً أن الجيش للوطن، مما أكسبه احترام وتقدير زملائه ومرؤوسيه.

في عام 1945، انشق المالكي عن جيش الشرق تلبية لدعوة رئيس الجمهورية شكري القوتلي، أثناء العدوان الفرنسي على العاصمة السورية. حكمت عليه السلطات الفرنسية بالإعدام، لكنه ظل متوارياً عن الأنظار حتى صدور العفو عنه. بعد ذلك، انضم إلى الجيش السوري عند تأسيسه في 1 آب 1945، وساهم في وضع الأنظمة العسكرية وتعريبها، ليكون أحد المؤسسين الحقيقيين للجيش العربي السوري.

كانت سنواته الأولى في الجيش مليئة بالتحديات والمغامرات، حيث شارك في العديد من المعارك والحملات العسكرية ضد المحتلين والمغتصبين. شخصيته القيادية وروحه الوطنية جعلاه يقف في مقدمة المدافعين عن سوريا، مبدياً شجاعة نادرة في كل موقف واجهه. بذلك، بدأ مسيرته نحو المجد العسكري، ليصبح واحداً من أبرز الضباط في تاريخ سوريا الحديث.

في جيش الشرق: من تلميذ إلى مدرب

التحق عدنان المالكي بجيش الشرق الفرنسي بعد تخرجه من الكلية الحربية في حمص عام 1939، وخدم في قطاعات مختلفة، حيث أظهر قدرات مميزة في القيادة والتدريب. عُيّن مدرباً في الكلية الحربية، حيث كان له دور بارز في تدريب الجنود والرقباء، مما جعل منه ضابطاً مرموقاً بين زملائه. خلال فترة خدمته في جيش الشرق، لم يتوانَ المالكي عن نشر الروح الوطنية بين مرؤوسيه من ضباط وجنود، مذكراً إياهم دائماً بأن الجيش يجب أن يكون للوطن، وليس لأية قوة استعمارية. هذا النشاط الوطني والروح الحماسية أثار قلق القادة الفرنسيين الذين وضعوه تحت رقابة مشددة.

لم يكن المالكي مجرد ضابط عسكري، بل كان أيضاً ناشطاً وطنياً يسعى لتحقيق استقلال بلاده. في 29 أيار 1945، استجاب لدعوة رئيس الجمهورية شكري القوتلي للانشقاق عن الجيش الفرنسي، خاصةً في ظل العدوان الفرنسي على العاصمة السورية. هذا القرار الشجاع جاء بعد فترة طويلة من التوتر مع القيادة الفرنسية التي اعتبرت نشاطه الوطني تهديداً لمصالحها. حكمت عليه فرنسا بالإعدام، ولكنه ظل متوارياً عن الأنظار حتى صدور عفو عنه.

اقرأ أيضاً:  أبو الفداء الحموي: الملك، العالم، الجغرافي والفلكي

بعد انشقاقه، انضم المالكي إلى الجيش السوري الناشئ وساهم بشكل فعّال في تعريب الأنظمة العسكرية ووضع الأسس لتدريب الجنود والضباط. برزت مهاراته القيادية والتدريبية مرة أخرى عندما شارك في لجنة تسلّم المطارات العسكرية والثكنات من الفرنسيين، وذلك قبل جلاء القوات الفرنسية عن سوريا في 17 نيسان 1946. كانت مشاركته في تعريب الأنظمة العسكرية ووضع كتاب “رتيب المشاة” من ثلاثة أجزاء، بالتعاون مع بعض مساعديه، علامة بارزة في مسيرته، إذ كان الكتاب الأول باللغة العربية الذي اعتمد في كلية حمص الحربية.

سعي المالكي لتطوير الجيش السوري وتجهيزه لمواجهة التحديات المستقبلية لم يتوقف هنا. فقد ظل يعمل جاهداً لتعزيز الروح الوطنية بين صفوف الجيش، مقدماً نموذجاً لضابط الجيش الذي يجمع بين الاحتراف العسكري والوطنية الصادقة. إسهاماته في تأسيس الجيش السوري وتطويره جعلت منه أحد الأركان الأساسية في بناء المؤسسة العسكرية السورية الحديثة.

حرب فلسطين: الجندي الشجاع في المعركة

شارك عدنان المالكي في حرب فلسطين الأولى عام 1948 كقائد لسرية مشاة، حيث أظهر شجاعة استثنائية وقيادة حكيمة. قاد المالكي سرية المشاة في معركة حاسمة ضد القوات الإسرائيلية، ونجح في احتلال تل مشرف على مستعمرة مشمار هايردن اليهودية. هذا الإنجاز جاء رغم إصابته بجروح بليغة في رأسه، مما أظهر مدى تصميمه وشجاعته في الميدان. تم نقله إلى المستشفى للعلاج، ولكن بمجرد تعافيه عاد إلى ساحة المعركة ليواصل الدفاع عن وطنه.

عُيّن المالكي لاحقاً قائداً للفوج الثامن، وهو فوج حديث التشكيل والتدريب، وقاد هذا الفوج في الدفاع عن الجبهة اللبنانية. كان له دور كبير في فك الحصار عن الجيش المصري المحاصر في الفالوجا، حيث ساهم في توفير الدعم العسكري واللوجستي الذي كان ضرورياً لفك هذا الحصار. بفضل قيادته الحازمة وشجاعته، تمكن الفوج الثامن من التصدي للهجمات وتحقيق الانتصارات في عدة معارك.

نال عدنان المالكي تقديراً كبيراً عن دوره البطولي في حرب فلسطين، وحصل على العديد من الأوسمة منها وسام الاستحقاق السوري ووسام الإخلاص ووسام جرحى الحرب والوسام الحربي. هذه الأوسمة كانت تكريماً لشجاعته وتفانيه في خدمة وطنه. كما منح الرئيس اللبناني بشارة الخوري المالكي وسام الاستحقاق اللبناني، تقديراً لدوره في الدفاع عن الجبهة اللبنانية وتعزيز العلاقات السورية اللبنانية.

بفضل شجاعته وإصراره على الدفاع عن وطنه، أصبح عدنان المالكي رمزاً للبطولة والفداء. قصته في حرب فلسطين تُظهر مدى تصميمه وشجاعته في مواجهة التحديات، وتؤكد على دوره الكبير في تعزيز الجيش السوري وترسيخ قيم الوطنية والولاء. هذه التجربة الحربية صقلت مهاراته القيادية وجعلته واحداً من أبرز الضباط في تاريخ الجيش السوري.

الانقلاب الأول: الأزمات السياسية والعسكرية

خلال حرب فلسطين، توطدت علاقة عدنان المالكي برئيس أركان الجيش حسني الزعيم، وتشارك الاثنان في النقمة على القيادة السياسية بسبب تكرار تهجم بعض النواب على ضباط الجيش من داخل المجلس النيابي. استغل الزعيم هذه النقمة لتنفيذ انقلاب ضد الرئيس شكري القوتلي عام 1949، وكان المالكي أحد الداعمين الأساسيين لهذا الانقلاب. في 29 آذار 1949، شارك المالكي في تنفيذ الانقلاب الذي انتهى باعتقال الرئيس القوتلي ورئيس الحكومة خالد العظم.

اقرأ أيضاً:  محمد علي العابد: أول رئيس جمهورية لسورية

بعد نجاح الانقلاب، عيّن حسني الزعيم المالكي عضواً في هيئة أركان الجيش، تحديداً في الشعبة الثالثة، تقديراً لدوره في الانقلاب. ومع ذلك، بدأت العلاقة بين الزعيم والمالكي تتدهور بسبب انتقادات الأخير لسياسات الزعيم الداخلية والإقليمية. أدرك الزعيم أن المالكي قد يُشكل تهديداً محتملاً لنظامه، فأمر بإيفاده إلى فرنسا لاتّباع دورة عسكرية في مدرستها الحربية العليا، بهدف إبعاده عن المشهد السياسي والعسكري في سوريا.

عاد المالكي إلى دمشق بعد الإطاحة بحكم الزعيم ومقتله في 14 آب 1949، وبدأ في الصدام مع العقيد أديب الشيشكلي، الذي كان مهندس الانقلاب الثالث في سوريا في نهاية العام نفسه. لم يتردد الشيشكلي في محاولة إسكات المالكي، فأرسله مجدداً إلى فرنسا. بعد عودته، صارح المالكي الشيشكلي بأوضاع البلاد وعدم رضا الضباط عن تصرفاته، مما أدى إلى اعتقاله في سجن المزة العسكري. ظل المالكي في السجن حتى تموز 1953، حين أطلق سراحه بعد انتخاب الشيشكلي رئيساً للجمهورية.

رغم إطلاق سراحه، ظل المالكي ينتقد عهد الشيشكلي ويجتمع سراً مع الضباط المناهضين له. شارك في العصيان العسكري الذي قاده ضباط الجيش، من بينهم فيصل الأتاسي ومصطفى حمدون، والذي انتهى باستقالة الشيشكلي وهروبه إلى لبنان في 25 شباط 1954. أعيد المالكي إلى منصبه في رئاسة الأركان، وعين رئيساً للشعبة الثالثة، حيث بدأ بتركيز جهوده على توجيه الجيش لمصلحة حزب البعث الذي كان يتحالف معه بقوة.

كانت هذه الفترة مليئة بالأزمات السياسية والعسكرية، حيث وجد المالكي نفسه في صراع دائم مع الزعماء المتعاقبين على السلطة في سوريا. ومع ذلك، نجح في الحفاظ على مكانته ونفوذه في الجيش، واستمر في العمل على تعزيز الروح الوطنية والتفاني في خدمة الوطن.

عودة الحكم الوطني والاغتيال المروع

عاد عدنان المالكي إلى الجيش بعد عودة الحكم الوطني برئاسة هاشم الأتاسي، وتولى منصب معاون رئيس الأركان العامة، حيث كان يُعرف بنشاطه المتفاني في خدمة الجيش والوطن. في هذا المنصب، بدأ المالكي في توجيه جهوده نحو تعزيز قوة الجيش وتوظيفه لمصلحة حزب البعث، الذي كان يتحالف معه بقوة ويشارك في رؤيته الوطنية. كما عُرف المالكي بمواقفه الوطنية الصارمة ومعارضته للتحالفات الغربية، خصوصاً حلف بغداد، وأبدى تأييده الكبير للرئيس المصري جمال عبد الناصر، مما جعله من الضباط المحسوبين على التيار المعادي للغرب في الجيش السوري.

في 22 نيسان 1955، اغتيل عدنان المالكي في الملعب البلدي بدمشق خلال حضوره لمباراة كرة قدم بين فريقي الجيش السوري وخفر السواحل اللبناني. كان المالكي جالساً في المنصة الرئيسية عندما أطلق عليه الرقيب الأول يونس عبد الرحيم، المنتمي إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، ثلاث رصاصات قاتلة. بعد تنفيذ الجريمة، أقدم عبد الرحيم على الانتحار بإطلاق رصاصة على رأسه، حتى لا يقع في قبضة السلطات السورية.

اقرأ أيضاً:  شكري القوتلي: بطل الاستقلال وصانع الوحدة

هذه الجريمة أثارت ضجة كبيرة في سوريا وأحدثت صدمة في الأوساط السياسية والعسكرية. الحكومة السورية والقوى السياسية الرئيسية اتهمت الحزب السوري القومي الاجتماعي بالمسؤولية عن الجريمة، وهي تهمة نفاها الحزب. أصدر رئيس الحكومة صبري العسلي قراراً بحظر نشاط الحزب السوري القومي الاجتماعي في سوريا وإغلاق مكاتبه وصحفه، وبدأت حملة واسعة من الاعتقالات في صفوفه.

تم تعيين العقيد عبد الحميد السراج رئيساً للمكتب الثاني للتحقيق في الجريمة. شنّ السراج حملة واسعة النطاق في جميع أنحاء البلاد، استهدفت قيادات وكوادر الحزب القومي، واعتقل العديد من أعضائه وقادته، بمن فيهم عصام المحايري وأمينة الحزب جولييت المير، أرملة مؤسس الحزب أنطون سعادة.

أصدرت المحكمة العسكرية بدمشق حكماً غيابياً بالإعدام على جورج عبد المسيح، رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي، إلى جانب ثلاثة من قادة الحزب الموقوفين الذين حُكم عليهم بالإعدام. كما أصدرت حكماً بالسجن لمدة 18 عاماً على جولييت المير، أرملة مؤسس الحزب أنطون سعادة. هذه الأحكام كانت جزءاً من حملة واسعة النطاق استهدفت تفكيك الحزب السوري القومي الاجتماعي وإنهاء نشاطاته في سوريا.

التكريم والإرث الباقي

تم تكريم عدنان المالكي بتسمية ساحة رئيسية بدمشق باسمه، حيث أقيم نصب برونزي كبير في وسطها يخلد ذكراه ويعكس مدى احترام وتقدير الشعب السوري له. لم يتوقف التكريم عند هذا الحد، بل أُطلق اسمه على العديد من المدارس والشوارع في المدن السورية الكبرى مثل دمشق وحلب وحماة واللاذقية وإدلب، ليظل اسمه محفوراً في ذاكرة الأجيال القادمة.

في المجال الفني، ظهرت شخصيته في الأعمال الدرامية، مثل مسلسل “حمام القيشاني”، حيث جسد دوره الفنان عبد الحكيم قطيفان، مما ساعد في تسليط الضوء على حياته وإسهاماته. كما جمعت رسائله من فترة الاعتقال في سجن المزة العسكري خلال عهد أديب الشيشكلي، وصدرت في كتاب عن دار الثقافة بدمشق، مما أتاح للناس فرصة للتعرف على جانب آخر من شخصيته وتجاربه.

كتبت عدة دراسات وكتب عن حياته، منها “المالكي رجل وقضية” (منشورات الفرع الثقافي العسكري، دمشق 1956)، “شهيد العروبة عدنان المالكي” للكاتب أبو الحجاج حافظ (دمشق 1961)، “عدنان المالكي: ثلاث رصاصات في الملعب البلدي” للكاتب محمد نمر المدني (دمشق 1996)، وسيرة الشهيد عدنان المالكي لشقيقه المحامي رياض المالكي (دمشق 2005). بالإضافة إلى ذلك، أُلّفت دراسة باللغة الإنجليزية بعنوان “سنوات سورية الديمقراطية” للكاتب الأمريكي كيفن مارتن (مطبعة جامعة أنديانا 2015)، التي تناولت فترة حياته وتأثيره على السياسة السورية.

تبقى قصة عدنان المالكي درساً في الوفاء للوطن والتضحية من أجله، ومثالاً للتحولات الحادة في التاريخ عندما يظن القاتل أنه تخلص من خصمه، فإذا بالقتيل ينتصر والقاتل يتحطم. إرث المالكي العلمي والعسكري يظل حياً في ذاكرة السوريين، مؤكداً على أهمية القيادة الشجاعة والمخلصة في تحقيق التغيير والنهوض بالأمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى