التراث اللامادي

فن العجمي الدمشقي: جوهرة الزخرفة الدمشقية وتراثها العريق

يُعد فن العجمي من أروع أشكال التعبير الفني التي نشأت في مدينة دمشق العريقة، وهو يتميز بإضافة زخارف خشبية تزيينية للأسقف والجدران، مما يضفي على الفضاءات جمالاً وسحراً فريداً. هذا الفن ليس مجرد حرفة يدوية، بل هو إرث دمشقي أصيل يعكس عراقة المدينة وثرائها الفني والثقافي، وقد استطاع أن يحافظ على استمراريته عبر العصور، من بداياته المحتملة في العصر الأموي وصولاً إلى ازدهاره في العصر العثماني واستمراره حتى يومنا هذا في ورش دمشق. لقد استخدم فن العجمي في تزيين المساجد والقصور والمنازل الفخمة، مما جعله مطلباً للصفوة وعلامة على الرقي والذوق الرفيع، كما أن قيمته الفنية العالية جعلت منه إرثاً تتناقله الأجيال جيلاً بعد جيل.  

الجذور التاريخية: نشأة فن العجمي في دمشق الأموية

شهدت مدينة دمشق تحولاً تاريخياً وفنياً هاماً عندما أصبحت عاصمة للخلافة الأموية في عام 661 م، حيث ازدهرت الفنون والحرف اليدوية بشكل ملحوظ تحت رعاية الخلفاء الأمويين. وقد تحولت دمشق في تلك الفترة إلى مركز حضاري وثقافي عالمي استقطب الحرفيين والفنانين المهرة من مختلف المناطق، مما أدى إلى تبادل الخبرات وتلاقح الفنون، وولادة أساليب فنية جديدة ومبتكرة. وقد تأثرت الفنون الإسلامية الناشئة في دمشق بالتقاليد الفنية الكلاسيكية والبيزنطية والساسانية التي كانت سائدة في المنطقة قبل الفتح الإسلامي، حيث تم استيعاب هذه التأثيرات وتطويرها لتلبية الاحتياجات الجمالية والفنية للمجتمع الإسلامي الجديد.  

يذكر النص المقدم أن فن العجمي استخدم من قبل الحرفيين الدمشقيين في بداية عصر الإمبراطورية الأموية لتزيين المساجد والقصور، وتشير بعض المصادر إلى أن قبة الصخرة في القدس والجامع الأموي في دمشق قد تكونان من الأمثلة المبكرة التي شهدت استخدام فنون الزخرفة الخشبية التي يمكن اعتبارها precursors لفن العجمي اللاحق. ومع مرور الوقت، تطورت الزخارف الخشبية لتصبح بديلاً أو مكملاً للفسيفساء والرخام في تزيين المباني الدينية والمدنية، خاصة بعد ازدهار صناعة الخزف في فترات لاحقة. ومع ذلك، تشير أبحاث أخرى إلى أن ازدهار فن العجمي بشكله المعروف كان في فترات لاحقة، وخاصة خلال العصر العثماني، وأن مصطلح “عجمي” نفسه ربما تطور مع مرور الوقت، حيث كان يشير في البداية بشكل عام إلى الأساليب غير العربية أو الفارسية. وعلى الرغم من أن الأصول الأساسية لفن العجمي دمشقية، إلا أن مصطلح “عجمي” الذي يعني “فارسي” أو “غير عربي” يشير إلى وجود تأثير أو ارتباط محتمل بالتقاليد الفنية الفارسية، خاصة وأن بعض المصادر تذكر أن فن العجمي الدمشقي تطور من الفن الفارسي وأخذ شكل ثلاثي الأبعاد.  

تقنيات ومواد فريدة: أسرار صناعة فن العجمي

يتميز فن العجمي باستخدام تقنيات ومواد فريدة تضفي عليه جمالاً وتميزاً خاصاً، حيث يعتمد الحرفيون على مهاراتهم اليدوية العالية في تحويل الخشب إلى تحف فنية رائعة.

يتم اختيار أنواع معينة من الأخشاب المحلية مثل الحور (الأكثر شيوعاً) والأرز والصنوبر والجوز والتوت والقيقب والسرو، وذلك حسب توفرها وخصائصها المناسبة للنقش والتزيين. وقد يتنوع استخدام الأخشاب حسب المنطقة والغرض من الزخرفة، حيث قد تفضل أنواع معينة للأسقف وأخرى للجدران أو الأثاث. أما بالنسبة للزخارف المضافة، فيعتبر الجص (gesso) المصنوع من الجبس واللصق الحيواني الطبقة الأساسية لإنشاء النقوش البارزة ثلاثية الأبعاد، والتي تسمى أحياناً “pastiglia”. ويتم تطبيق أوراق الذهب والفضة والقصدير لإضافة اللمعان والقيمة الجمالية، مما يعكس ثراء الزخرفة وأهمية العمل الفني. كما يستخدم الحرفيون مواد أخرى مثل الأصباغ الملونة (تقليدية مستخلصة من مواد طبيعية أو حديثة) والزيوت (مثل زيت بذر الكتان) واللؤلؤ والأحجار الكريمة في بعض الأعمال الفنية الأكثر فخامة. ومن التقنيات الفريدة المستخدمة في فن العجمي استخدام دهن البقر كقاعدة للأصباغ في بعض الحالات، مما يضمن الالتصاق الجيد بالخشب ويمنع التشقق، ويساهم في الحفاظ على الألوان زاهية لفترة طويلة.  

تتضمن عملية التزيين خطوات متقنة ومهارة عالية تبدأ بنقل التصميم الدقيق إلى سطح الخشب المُجهز باستخدام ورق التتبع ومسحوق الفحم لإنشاء الخطوط الأولية للرسم. ثم يتم تطبيق مادة “النباتي” (Nabati) وهي مادة بيضاء مخلوطة بطلاء أبيض لإنشاء النقوش البارزة ثلاثية الأبعاد، والتي تتميز بتطبيق طبقات متعددة للحصول على التأثير المطلوب. وبعد جفاف “النباتي”، يتم تنعيم وتلوين النقوش باستخدام أنواع مختلفة من ورق الصنفرة، ثم تطبيق طبقة من الطلاء الأبيض السائل وزيت بذر الكتان. وفي مرحلة لاحقة، يتم تطبيق أوراق الذهب والفضة باستخدام غراء خاص (missione glue) وفرشاة ناعمة. وأخيراً، يتم إضافة التفاصيل النهائية مثل الخطوط الدقيقة السوداء على حواف المناطق البارزة وخطوط الظل الملونة لإبراز الأشكال وتحقيق التوازن اللوني. هذه العملية المعقدة تتطلب مهارات متخصصة ودقة عالية، مما يجعل فن العجمي من أصعب الفنون التطبيقية في العالم.  

اقرأ أيضاً:  كيفية إحياء الموسيقى الشعبية السورية: نهضة ثقافية
المادة المستخدمةالدور في فن العجمي المصادر المحتملة
أنواع الأخشاب المادة الأساسية التي يتم التزيين عليها ( الأساس الهيكلي للعمل الفني)محلية (الحور، الأرز، الصنوبر، الجوز، التوت، القيقب، السرو) أو مستوردة (حسب التوفر والتكلفة)
الجص طبقة أساسية لإنشاء النقوش البارزة (يوفر سطحاً للزخرفة ثلاثية الأبعاد)محلي
أوراق الذهب/الفضة/القصدير إضافة اللمعان والقيمة الجمالية (تعزيز التأثير البصري وإبراز التفاصيل)أسواق الحرف اليدوية، قد تكون مستوردة
الأصباغ الملونة تلوين النقوش وإضافة العمق والتنوع اللوني (إضفاء الحيوية والتعبير على العمل الفني)تقليدية (مستخلصة من مواد طبيعية مثل النباتات والمعادن) أو حديثة (صناعية)
الزيوت تستخدم في مراحل التحضير والتثبيت والتلميع (حماية الخشب، تحسين امتصاص الأصباغ، إضافة لمعان نهائي)محلية
اللؤلؤ والأحجار الكريمة إضافة قيمة جمالية ورمزية (تستخدم في بعض الأعمال الفنية الأكثر فخامة)أسواق المجوهرات والأحجار الكريمة، قد تكون مستوردة
مادة “النباتي”مادة بيضاء تستخدم لإنشاء النقوش البارزة ثلاثية الأبعاد (تعطي العمل الفني مظهراً مميزاً)تركيبة تقليدية خاصة بفن العجمي (مكوناتها تحتاج إلى تحديد دقيق من المصادر)
صمغ عربي يستخدم كمادة رابطة في بعض مراحل التلوين أو التحضير (يساعد على تماسك الأصباغ والتصاقها بالسطح)محلي أو مستورد
زيت التربنتين يستخدم كمذيب أو مخفف لبعض المواد المستخدمة في التزيين (يساعد في تطبيق الأصباغ والتحكم في قوامها)محلي أو مستورد
دهن البقر يستخدم كقاعدة للأصباغ في بعض الحالات (يضمن الالتصاق بالخشب ويمنع التشقق)محلي

عالم الزخارف: الأشكال والدلالات في فن العجمي

يتميز فن العجمي بعالم غني من الزخارف والأشكال التي تحمل دلالات ثقافية وفنية عميقة، وتعكس ذوق ومهارة الحرفيين الدمشقيين.

تتضمن هذه الزخارف رسوماً شرقية تصور مشاهد من الحياة الشرقية، مثل المناظر الطبيعية الخلابة والحيوانات المتنوعة والأشخاص في أوضاع مختلفة، بالإضافة إلى القصص الشعبية والأساطير التي كانت شائعة في تلك الحقبة. كما يبرز في فن العجمي استخدام الأشكال الهندسية المعقدة مثل النجوم والأشكال المتداخلة التي تعكس مفاهيم الوحدة واللانهائية والنظام الكوني في الإسلام، وتعتبر لغة بصرية تعبر عن التناغم والجمال الرياضي. وتتضمن الزخارف أيضاً أشكالاً نباتية مثل الأزهار والأوراق والأغصان المتشابكة (الأرابيسك) التي ترمز إلى الجنة والخصوبة والجمال الطبيعي، وتعكس الوفرة والإبداع الإلهي. بالإضافة إلى هذه الزخارف، يتميز فن العجمي بإضافة كتابات وخطوط عربية تتضمن آيات قرآنية وأشعار وحكم وأمثال، مما يعكس أهمية اللغة العربية والشعر في الثقافة الإسلامية ودورهما في التعبير الروحي والجمالي. وقد كان الخط العربي يعتبر في حد ذاته شكلاً فنياً رفيعاً في الثقافة الإسلامية، ووسيلة للتعبير عن المعاني الروحية والفلسفية.  

اقرأ أيضاً:  كيفية الحفاظ على التراث الثقافي غير المادي السوري في ظل الصراع

شواهد حية: أمثلة بارزة لفن العجمي عبر التاريخ

تزخر مدينة دمشق بالعديد من الأمثلة البارزة لفن العجمي التي تشهد على عراقة هذا الفن وجماله عبر التاريخ. ففي المساجد والقصور العريقة، يمكن للمرء أن يجد شواهد حية على هذا الإبداع الفني. وعلى الرغم من أن مصطلح “عجمي” ربما لم يكن مستخدماً في الفترة الأموية بنفس الدلالة، إلا أن الجامع الأموي وقبة الصخرة يعتبران من الأمثلة المبكرة المحتملة لتطبيق فنون الزخرفة الخشبية التي يمكن اعتبارها مقدمة لفن العجمي اللاحق. أما في العصر العثماني، فقد ازدهر فن العجمي بشكل خاص في قصور دمشق، ومن أبرز الأمثلة على ذلك “قاعة دمشق” المنقولة إلى متحف دمشق الوطني، والتي تعود إلى العصر العثماني وتعتبر نموذجاً رائعاً لهذا الفن. كما يمكن الإشارة إلى قصر العظم وقصر نظام كأمثلة أخرى على القصور الدمشقية التي تزينت بفن العجمي، حيث تتميز بزخارفها الخشبية الرائعة ونقوشها البارزة.  

ولم يقتصر فن العجمي على دمشق وحدها، بل انتشر أيضاً في مناطق أخرى من سوريا مثل حلب وحماة، حيث يمكن العثور على أمثلة رائعة لهذا الفن في بيوتها وقصورها القديمة. ومن الأمثلة البارزة “غرفة حلب” الموجودة في متحف الفن الإسلامي في برلين، والتي تعود إلى أوائل القرن السابع عشر وتعتبر من أقدم النماذج الباقية لفن العجمي. كما يمكن العثور على أمثلة أخرى لفن العجمي في متاحف عالمية مثل متحف فيكتوريا وألبرت في لندن ومتحف الفنون التطبيقية في بودابست، مما يدل على القيمة الفنية العالمية لهذا الفن وأهميته في التراث الثقافي.  

قيمة فنية وثقافية: مكانة فن العجمي في التراث الإسلامي والعربي

يحتل فن العجمي مكانة مرموقة في التراث الإسلامي والعربي، فهو ليس مجرد تعبير فني عن الجمال والإبداع، بل هو أيضاً تعبير عن الهوية السورية والعربية والإسلامية، حيث يمزج بين الأصالة والجمال والروحانية. وتعكس الزخارف الإسلامية، بما فيها فن العجمي، معاني روحية وفلسفية عميقة، حيث تجسد مفاهيم الوحدة واللانهائية والنظام الكوني والتناغم مع الطبيعة. كما أن فن العجمي يلعب دوراً هاماً في حفظ الذاكرة والتاريخ، حيث يعتبر سجلاً تاريخياً قيماً يعكس تطور الذوق والفنون في دمشق وسوريا عبر العصور، ويحمل في طياته بصمات الحقبة الأموية والعثمانية.  

اقرأ أيضاً:  البقلاوة السورية: تحفة الحلويات الشرقية

فن العجمي اليوم: بين الحفاظ والتجديد في دمشق

لا يزال فن العجمي حياً ونابضاً في دمشق اليوم، حيث يوجد حرفيون ماهرون مثل عائلة بيضون ومركز الفن الدمشقي، الذين يحافظون على هذه الحرفة ويتناقلونها عبر الأجيال، ويحرصون على نقل المعرفة والمهارات التقنية والتقليدية لفن العجمي إلى الأجيال الشابة من خلال التدريب وورش العمل. وتوجد في دمشق ورش عمل فنية نشطة تقوم بإنتاج أعمال فنية من العجمي وتصديرها إلى جميع أنحاء العالم، مما يدل على استمرار الطلب على هذا الفن وقيمته الفنية العالية. وتشمل المنتجات المصدرة الأثاث والصناديق والآلات الموسيقية والألواح الزخرفية، مما يعكس تنوع استخدامات هذا الفن وإمكاناته الإبداعية. كما أن الحرفيين المعاصرين يسعون إلى إدخال لمسات عصرية على فن العجمي من خلال دمجه مع أشكال فنية أخرى مثل فن القيشاني، وذلك لتلبية متطلبات العصر الحديث وتوسيع قاعدة جمهوره.  

تأثير متبادل: فن العجمي والفنون الأخرى

يمكن ملاحظة تشابهات بين فن العجمي وفنون الزخرفة الخشبية الأخرى في الحضارات المختلفة، مثل فن الأرابيسك وفن الحشوات الخشبية (Inlay) وفن الماركتري وفن الباستيجليا الأوروبي، حيث تتشابه في استخدام الخشب كمادة أساسية وفي بعض التقنيات الزخرفية. وقد يكون فن العجمي قد تأثر أو ألهم فنون الزخرفة الأخرى في المنطقة وخارجها، خاصة بالنظر إلى انتشاره وأهميته التاريخية. كما أن فن العجمي كان له تأثير كبير على التصميم الداخلي والفنون التطبيقية، حيث استخدم في تزيين الأثاث والآلات الموسيقية والصناديق وغيرها من الأشياء اليومية، مما أضفى عليها قيمة فنية وجمالية عالية. وقد كان عنصراً أساسياً في تصميم المساحات الداخلية في المنازل والقصور التقليدية في دمشق وحلب وغيرها من المدن السورية، حيث ساهم في خلق بيئة فاخرة وجمالية تعكس ثقافة وهوية المكان.  

جهود الحفظ والاستدامة: مستقبل فن العجمي

تُبذل جهود كبيرة لتوثيق وترويج فن العجمي للحفاظ عليه وضمان استمراريته في العصر الحديث. تقوم المؤسسات البحثية والمتاحف مثل مشروع “Zukhruf” في حلب ومبادرات الجامعات بتوثيق تقنيات ومواد فن العجمي. كما يلعب مركز الفن الدمشقي دوراً هاماً في الحفاظ على الحرفة من خلال تنظيم ورش عمل ودورات تدريبية لتعليم الأجيال الشابة أسرار هذا الفن. وتُقام مشاريع ترميم للأعمال الفنية القديمة في المتاحف والمباني التاريخية للحفاظ على هذا الإرث الثقافي القيم. وتُبذل جهود للترويج لفن العجمي من خلال المعارض والمطبوعات ووسائل الإعلام المختلفة لزيادة الوعي بأهميته وقيمته الفنية. ومع ذلك، يواجه فن العجمي تحديات كبيرة مثل تراجع عدد الحرفيين المهرة وتأثير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في سوريا. وللتغلب على هذه التحديات، هناك حاجة إلى دعم حكومي ومؤسساتي أكبر للحفاظ على الحرفة من خلال توفير التمويل والتدريب وفتح الأسواق للحرفيين.  

خاتمة: فن العجمي – إرث دائم من الجمال والإبداع

في الختام، يمكن القول إن فن العجمي ليس مجرد حرفة يدوية، بل هو تعبير فني وثقافي عميق الجذور في مدينة دمشق، يحمل في طياته تاريخاً عريقاً وجمالاً فريداً يعكس هوية المدينة وتراثها الغني. وعلى الرغم من التحديات التي يواجهها هذا الفن في العصر الحديث، إلا أن الجهود المبذولة للحفاظ عليه وترويجه تبعث الأمل في استمراريته للأجيال القادمة كإرث دائم من الجمال والإبداع. إن الحفاظ على فن العجمي هو الحفاظ على جزء هام من الذاكرة الثقافية السورية والإسلامية، وتقدير للإبداع والمهارة التي تميز بها الحرفيون الدمشقيون عبر التاريخ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى