التراث المادي

سوق البزورية بدمشق: عبق التاريخ في قلب المدينة القديمة

في قلب دمشق القديمة، بالقرب من الجامع الأموي الشامخ، يقع سوق البزورية التاريخي، وهو عبارة عن متاهة آسرة من الروائح والألوان والأصوات . يستقبل هذا السوق، الذي يعد من أهم المعالم التاريخية للعاصمة السورية ، زواره بعبير التوابل النفاذ، ومنظر البضائع المتنوعة المعروضة بأناقة، وأصوات الباعة المتجولين التي تنادي على سلعهم. إن التجول في أزقة هذا السوق العريق أشبه بالدخول إلى عالم آخر، حيث يمتزج عبق الماضي بالحاضر في مشهد فريد يأسر الحواس ويثير الفضول. تستكشف هذه المقالة تاريخ سوق البزورية العريق، وأنواع المنتجات والسلع التي يشتهر بها، وعناصره المعمارية المميزة، والأجواء الثقافية والاجتماعية التي يزخر بها، وأهميته في الوقت الحاضر، والتحديات التي تواجهه، بالإضافة إلى بعض القصص والحكايات المرتبطة به.  

رحلة عبر الزمن: تاريخ سوق البزورية وأهميته

يعود تاريخ سوق البزورية إلى عصور قديمة، حيث تشير بعض المصادر إلى وجوده منذ القرن الرابع عشر الميلادي على الأقل . فقد ذكر المؤرخ الدكتور قتيبة الشهابي أن السوق احترق في عام 800 هـ (1398 م) وكان يعرف آنذاك بسوق العطارين وسوق القمح . كما وصفه ابن عساكر في كتابه “تاريخ دمشق”، وذكره القساطلي في “الروضة الغناء”، وابن طولون في “مفاكهة الخلان” . وتذكر مصادر أخرى أن بناء السوق يعود إلى العهد المملوكي قبل حوالي 850 عامًا . وقد عرف السوق سابقًا بأسماء مختلفة تعكس طبيعة السلع التي كانت تباع فيه، حيث كان يطلق عليه اسم سوق القمح، ثم سوق الدهيناتية حيث كانت تصنع فيه الدهون مثل زيت اللوز، ثم سوق العطارين لبيع العطور والأعشاب العطرية، ليستقر اسمه أخيرًا على سوق البزورية .  

لعب سوق البزورية دورًا تجاريًا هامًا عبر العصور، حيث كان في بدايته مستودعًا للمؤونة والقمح تتزود منه القوافل . ومنذ العهد المملوكي، تخصص السوق في بيع جميع أنواع الحبوب، وهو ما أكسبه اسمه الحالي . وقد ازدهر السوق بشكل خاص خلال العهد العثماني، خاصة بعد بناء والي دمشق أسعد باشا العظم قصره في القسم الشمالي من السوق عام 1749 وخانًا ضخمًا في قسمه الجنوبي عام 1753 . أصبح خان أسعد باشا وجهة للتجار الأوروبيين ومركزًا للتبادل التجاري بين الشرق والغرب . وقد نجا السوق من عدة مخاطر عبر تاريخه الطويل، بما في ذلك الحرائق والقصف الفرنسي لدمشق عام 1945، مما يدل على صموده وأهميته الدائمة في حياة المدينة .  

كنز من المنتجات: سلع فريدة وحرف تقليدية

يشتهر سوق البزورية اليوم ببيع مجموعة متنوعة من المنتجات، أبرزها التوابل والبهارات بأنواعها المختلفة . بالإضافة إلى ذلك، يضم السوق محلات لبيع الحلويات الشامية التقليدية مثل الراحة والملبس ، والفواكه المجففة، والصابون البلدي المصنوع من زيت الزيتون والغار . كما يشتهر السوق ببيع الأعشاب الطبية والعطرية التي تستخدم في الطب الشعبي ، والملابس الدمشقية التقليدية .  

اقرأ أيضاً:  نواعير حماة: شهود على عراقة الهندسة المائية والتراث الحضاري لسوريا

من بين المنتجات الفريدة التي يشتهر بها سوق البزورية شراب العرقسوس الذي يعد من المشروبات الشعبية في دمشق، خاصة خلال شهر رمضان . كما كان السوق في الماضي مركزًا لتقطير ماء الورد، إلا أن هذا النشاط تراجع في العصر الحديث . وفي فصل الشتاء، يزداد الإقبال على شراء المكدوس، وهو الباذنجان المحشو بالجوز والفلفل الأحمر وزيت الزيتون . وتنتعش تجارة المكسرات والحلويات بشكل خاص خلال شهر رمضان والأعياد والمناسبات الاجتماعية . ويضم السوق أيضًا محلات لبيع مستلزمات الأعراس مثل علب الأفراح والشموع والسكاكر والشوكولاتة.

جدول: أبرز فئات المنتجات في سوق البزورية

فئة المنتجأمثلة
التوابل والبهاراتكمون، كزبرة، قرفة، زنجبيل، فلفل أسود، هيل، قرنفل
الأعشاب الطبية والعطريةبابونج، ميرمية، مليسة، زعتر، ورد جوري، زهرة الألماس، كركديه
الحلويات الشامية التقليديةراحة، ملبس، معمول، بقلاوة، كنافة، غزل البنات، نوغا، سكر نبات
الفواكه المجففة والمكسراتزبيب، مشمش مجفف، تمر، تين مجفف، لوز، جوز، فستق حلبي
الصابونصابون زيت الزيتون، صابون الغار السوري
المشروباتشراب التوت الشامي، شراب الورد، عرقسوس، تمر هندي، كراوية
مستلزمات الأفراحعلب أفراح، شموع، سكاكر، شوكولاتة
أخرىملابس دمشقية تقليدية، أدوات منزلية، زيوت عطرية، شموع معطرة، قهوة، شاي

روائع معمارية: تصميم وخصائص سوق البزورية

يمتد سوق البزورية على طول 152 مترًا ، ويتميز بتصميمه التقليدي وأجوائه التاريخية. يغطي السوق سقف مقوس مصنوع من الحديد ، والذي تم تغطيته لاحقًا بألواح من التوتياء لحمايته من الحرائق . ترصف أرضية السوق بحجارة البازلت ، وتتراصف على جانبيه المحلات التجارية التي بنيت في الماضي من الخشب ثم الحديد مع الحفاظ على الطراز القديم . يتميز السوق بأنه متعرج وفي عدة اتجاهات، مما يجعل سقفه المعدني يأخذ أشكالًا متنوعة مثل القباب والدوائر وأشباه المنحرفات .  

يضم سوق البزورية عددًا من الخانات التاريخية التي كانت تستخدم في الماضي كفنادق لإقامة التجار والمسافرين . من أبرز هذه الخانات خان أسعد باشا الذي يعد أكبر خانات دمشق القديمة وأجملها . بني هذا الخان في عام 1753 بأمر من والي دمشق أسعد باشا العظم ، وقد وصف بأنه من أرقى الأعمال المعمارية في المدينة . استضاف خان أسعد باشا في الماضي قوافل تجارية قادمة من بغداد والموصل وحلب وبيروت وغيرها من مناطق الشرق الأوسط . يتميز الخان بباحته الداخلية الواسعة التي تتوسطها بركة ماء وتحيط بها الغرف والمخازن، ويعلو الباحة ثماني قباب صغيرة وقبة مركزية كبيرة . ويجري حاليًا ترميم الخان لتحويله إلى موقع سياحي وثقافي .  

اقرأ أيضاً:  أوغاريت: مهد الأبجدية الأولى

إلى جانب الخانات، يضم سوق البزورية حمام نور الدين الشهيد الذي يعد من أشهر وأقدم الحمامات في دمشق . شيد هذا الحمام في عام 1171م ، وما زال يستقبل الزوار حتى اليوم ليقدم لهم تجربة الاستحمام التقليدية في أجواء تاريخية عريقة . ويقع في الطرف الشمالي من سوق البزورية قصر العظم الذي بني في القرن الثامن عشر الميلادي ويعد نموذجًا رائعًا للفن المعماري الإسلامي .  

نبض الحياة الدمشقية: الأجواء الثقافية والاجتماعية

يتميز سوق البزورية بأجوائه الثقافية والاجتماعية الفريدة التي تعكس طبيعة الحياة الدمشقية الأصيلة. فخلال شهر رمضان، يكتسب السوق أهمية خاصة حيث يتوافد إليه الناس لشراء مستلزمات موائد الإفطار والسحور . وتنتشر في السوق عادات وتقاليد مرتبطة بالتسوق والتجارة، مثل العلاقة الطيبة التي تربط بين التجار والزبائن، وأخلاقيات المهنة التي يلتزم بها أصحاب المحلات . ومن العادات الجميلة في السوق التكافل الاجتماعي بين التجار، حيث يتعاونون فيما بينهم لمساعدة أي تاجر يواجه صعوبات مادية .  

يعتبر سوق البزورية مكانًا للقاء والتواصل الاجتماعي بين الدمشقيين، ويعكس جزءًا هامًا من حياتهم اليومية . وقد وصف الشاعر نزار قباني السوق بأنه مكان يفوح منه عبق الفانيليا وينسيه أفخم العطور . كما أن السوق يحتل مكانة خاصة في ذاكرة الكثير من الدمشقيين الذين اعتادوا التسوق منه منذ طفولتهم لشراء مستلزمات المناسبات والأعياد .  

سوق البزورية اليوم: أهمية ودور في حفظ التراث

لا يزال سوق البزورية يحافظ على أهميته الكبيرة في العصر الحديث بالنسبة لسكان دمشق والسياح على حد سواء . فهو يوفر للسكان المحليين مجموعة متنوعة من المنتجات التقليدية والأعشاب الطبية والبهارات التي لا تزال جزءًا أساسيًا من حياتهم اليومية . أما بالنسبة للسياح، فيمثل السوق وجهة جذابة لاستكشاف التراث الثقافي لدمشق والتعرف على المنتجات المحلية الأصيلة والأجواء الشرقية المميزة .  

يلعب سوق البزورية دورًا حيويًا في الحفاظ على التراث الثقافي لمدينة دمشق . فمن خلال الحفاظ على طابعه المعماري القديم ومحلاته التجارية التي توارثتها العائلات عبر الأجيال، يساهم السوق في استمرار الممارسات التجارية التقليدية والحرف اليدوية المحلية . كما أن وجود الخانات التاريخية والحمام الأثري في السوق يجعله جزءًا لا يتجزأ من النسيج التاريخي للمدينة .  

مقارنات وإضاءات: سوق البزورية في سياق الأسواق التقليدية

يمكن مقارنة سوق البزورية بالعديد من الأسواق التقليدية الأخرى في دمشق مثل سوق الحميدية وسوق مدحت باشا . يعتبر سوق الحميدية أكبر أسواق دمشق وأكثرها شهرة، ويتميز بتنوع بضائعه وسقفه المقوس . أما سوق مدحت باشا، فيشتهر ببيع الأقمشة والمفروشات والأدوات المنزلية . يتميز سوق البزورية بتخصصه في بيع التوابل والأعشاب الطبية والحلويات، وبمحلاته الصغيرة نسبيًا مقارنة بمحلات سوق الحميدية .  

اقرأ أيضاً:  متحف درعا وبصرى الشام: معارض التراث والفن والتاريخ

على الصعيد العربي والعالمي، يمكن مقارنة سوق البزورية بأسواق تقليدية شهيرة مثل خان الخليلي في القاهرة وسوق واقف في الدوحة وأسواق مراكش . يشترك سوق البزورية مع هذه الأسواق في كونه مركزًا تجاريًا تاريخيًا يجذب السكان المحليين والسياح على حد سواء، ويتميز بأجوائه الشرقية الأصيلة وتنوع منتجاته التقليدية، خاصة التوابل والأعشاب . ومع ذلك، يتميز كل سوق بطابعه الفريد الذي يعكس تاريخه وثقافة المدينة التي يقع فيها.  

تحديات وآمال: الحفاظ على سوق البزورية وتطويره في العصر الحديث

يواجه سوق البزورية في العصر الحديث بعض التحديات، منها التغيرات الاقتصادية التي أثرت على القوة الشرائية للناس . كما أن التطور العمراني قد يشكل تهديدًا للأسواق التقليدية بشكل عام . وقد شهد السوق مؤخرًا بعض المخاوف بشأن إخلاء بعض المحلات في منطقة خان الرز بهدف الاستثمار السياحي، مما يثير تساؤلات حول مستقبل هذا الجزء التاريخي من السوق .  

ومع ذلك، هناك جهود مبذولة للحفاظ على سوق البزورية وتطويره. فقد قامت محافظة دمشق بتنفيذ أعمال صيانة وترميم لأرضية السوق المرصوفة بحجر اللبون للحفاظ على هويته المعمارية . كما أن وزارة السياحة لديها خطط لترميم وتوظيف خان أسعد باشا سياحيًا وثقافيًا . بالإضافة إلى ذلك، تم إطلاق مشروع لتوثيق التراث اللامادي في سوريا في خان أسعد باشا، مما يدل على الاهتمام بالحفاظ على العادات والتقاليد المرتبطة بالسوق .  

حكايات من السوق: قصص وشخصيات بارزة

يرتبط سوق البزورية بالعديد من القصص والحكايات التي تضفي عليه طابعًا إنسانيًا وشخصيًا. فقد ذكر الشاعر نزار قباني ذكرياته الجميلة مع السوق وعطره الفريد . كما أن هناك عائلات توارثت العمل في السوق لأجيال عديدة، مثل عائلة العوف التي تعمل في تجارة التوابل منذ عام 1760 ، وعائلة دركل المعروفة بتجارة الأعشاب الطبية . ويذكر أن أحد المتخصصين في الأعشاب الطبية في السوق، محمود الميداني “أبو أكرم”، يشير إلى الإقبال الكبير على الأعشاب الطبية كبديل للطب الحديث نظرًا لفوائدها وتكلفتها المنخفضة . كما يروي أحد أصحاب المحلات حكايات عن شهر رمضان في السوق وكيف كان التجار يجلسون يقرأون القرآن بينما تمر الدواب التي تنقل البضائع، وكان سائقوها يخلعون أبائيبهم الخشبية حتى لا يزعجوا القارئين .  

خاتمة: سوق البزورية… رمز دمشق الخالد

يظل سوق البزورية رمزًا شامخًا لمدينة دمشق، شاهدًا على تاريخها العريق وثقافتها الغنية. فهو ليس مجرد سوق تجاري، بل هو جزء حي من الذاكرة الجماعية للدمشقيين، ومصدر إلهام للفنانين والشعراء، ووجهة لا غنى عنها لكل من يزور هذه المدينة التاريخية. بفضل عبيره الفريد، وألوانه الزاهية، وأجوائه الأصيلة، وحكاياته التي لا تنتهي، سيستمر سوق البزورية في أسر قلوب زواره ليظل علامة بارزة من علامات دمشق الخالدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
×